المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : برلين قبل الجدار وبعده



الخاتون
17-04-2012, 11:16 AM
في خريف 1989م , شهدت عاصمة ألمانيا حدثا كان له , سياسيا , وقع قنبلة هائلة ,ستظل آثارها قائمة لعقود , وربما قرون . تمثل الحدث في سقوط ( حائط العار ) أو ( سور صد الفاشية ) ( بحسب تسميتيه المتضادتين وقتها , وفق وجهة نظر كل من جانبيه ) .
عدا عن التداعيات الإستراتيجية , ترك انهيار الجدار أثرا عمرانيا أيضا , غير من معالم برلين .
ماذا تغير بعد أكثر من عقدين ؟
في العقدين ونيف الأخيرين , مثل رقما 11\9 و9\11 تاريخين حاسمين , لم تعد أمور الدنيا بعدهما مثلما كانت عليه قبلهما .ففي 11 سبتمبر 2001م , حصل ما حصل في نيويورك , من تدمير برجي التجارة العالمية ,والبقية تعرفونها .
قبل ذلك بنحو12 عاما , تحديدا في 9 نوفمبر 1989م ,كان تدمير آخر قد حصل , إنما سلمي , بالمعاول والفؤوس والمطارق وسكاكين المطبخ , وكل ما وقع تحت اليد , وحتى الأيدي العزلاء نفسها , وليس طائرات مرتطمة في الأعلى وقنابل موقوتة في الأسفل .
ففي ذلك اليوم المشهود 11\9\1989م , هاجمت الجماهير السور المنيع الذي كان شطر مدينتهم إلى شطرين متعاديين طوال 28 عاما , تحديدا منذ 13 أغسطس 1961م .وكان للحدثين كليهما , 11\9 و 9\11 , مفعول مشابه : إحكام سيطرة الغرب على شؤون العالم , وتحكم واشنطن في مصائر شعوبه , وانفرادها على الساحة الدولية , وإيجادها حججا جديدة , بالغة القوة , للتدخل متى يحلو لها , وأينما تقود إليه مصالحها . إذ كرس انهيار الجدار تفتت إمبراطورية الاتحاد السوفييتي السابق , وتهشم أفلاكها في المعسكر الشرقي , وما تبعه من احتكار القوة من جانب واحد , ونهاية " توازن الإرهاب " .
أما تدمير برجي نيويورك , فكرس احتكار واشنطن وضع " قوائم سوداء " بحسب أهوائها , ومصالح ال" لوبيات " التي ترزح تحت سطوتها , وإدراج من تشاء في خانة (البلدان المارقة ) , وشن حملات غزو , تسميها " حروبا استباقية " , الخ .
600 كلب حراسة :
لكن , بعيدا عن قلب الخارطة السياسية الدولية , أدى سقوط جدار برلين إلى تغييرات ملموسة , وبشكل خاص مرئية , على الصعيدين المدني والعمراني . فالجدار , كأي سور تحصين , كان يفتقر إلى الجمال .
وكيف يكون والغاية منه العزل , والصد , وحرمان الناس من التلاقي , حاله حال جدار العزل العنصري في الضفة الغربية ؟ إذ أتاح انهيار حائط برلين إعادة تخطيط ما حوله , وتعمير مبان , أو ترميمها , وشق شوارع , وشتل حدائق ومتنزهات . فهو لم يكن مجرد حائط , وتسمية " جدار " غير دقيقة , ولا تفي بالغرض . إذ كان تحصينا عسكريا معقدا , يتضمن حائطين متوازيين , بارتفاع3.6 متر, بينهما فسحة كبيرة , وممرات مراقبة وإطلاق , وأسلاك شائكة في قمتيهما .
وكان السور المنيع , بين حائطيه المتوازيين , مزودا 302 برج مراقبة , وأنظمة إنذار أوتوماتيكية .
وكلف بحراسته ما مجموعه 14 ألف عسكري , و 600كلب حراسة . وهذا ما يفسر أن بضع مئات من مواطني برلين الشرقية لقوا حتفهم أثناء محاولاتهم الفرار . فعبور مثل ذلك التحصين كان أمرا عسيرا . وكان الحرس الألمان , ومعهم عسكريون سوفييت , لا يترددون في إطلاق النار على الفارين , الذين قتل منهم بضع مئات .
ويوم تداعى الحصن , تم فتح تلك المساحة , المحصورة بين جداريه المتوازيين , وتسويتها بالأرض . وربطت الكيلومترات المربعة ال409 التي كانت تمثل برلين الشرقية , ما يوازي 45% من مجموع مساحة العاصمة , بال55% المتبقية , أي برلين الغربية . فبرلين , بسكانها الحاليين الثلاثة ملايين ونصف المليون , حاضرة مترامية الأطراف , بقطر يتراوح بين 38و45كيلومترا مربعا .
وما يفسر عدم وجود (مركز) مدينة واحدة , هو أن الحاضرة منتشرة على 12تقسيما إداريا , كانت في الماضي تشكل نواحي وأقضية مستقلة , وشمل انهيار الجدار نصفها .
إذن تغيرت معالم ستة من الأحياء ال12 ,تلك التي كان يمر التحصين منها , وهي أحياء (راينكيندورف ,بانكوف , ميته , كروزبيرغ , نيوكولن , تريبتوف ) . وحرصت السلطات البلدية على إبقاء مساري خطي الجدارين ظاهرين للعيان في مواضع عديدة , إنما في مستوى الأرض . إذ تم تبليط آثار الحائطين ببلاط خاص , يشبه الطابوق (الباطون ) , المختلف عن أرضية الشارع الإسفلتية , لتمييزه عنها . والهدف : إبقاء أثر السور كذكرى تاريخية , كأنها من أطلال الماضي , وأيضا للتذكير بانهيار رمز قديم , وتمجيد انتصار نهج أيديولوجي ( الليبرالية ) على منحى معاد (الشيوعية ) , إثر حرب "باردة " استعرت بينهما طوال أكثر من 7عقود . وتم تمديد خطوط وسائط النقل العمومية , أو ربطها ببعضها بعضا , لكي تغطي الجانبين كليهما , بعدما ظلت تلك الخطوط "مبتورة " عقودا .
هكذا قضى نحبه
في 27/6/1989م , بادرت النمسا و هنغاريا إلى قطع " الستارة الحديدية " التي كان جزء منها ممتدا على طول الحدود بينهما , ما شكل الشرارة الأولى لهدم الستارة الحديدية برمتها . فإثر إلغاء الحاجز الحدودي الحديدي بين البلدين , تقاطرت إلى ألمانيا الغربية أعداد كبيرة من سكان ألمانيا الشرقية , الذين كان مسموحا لهم بالسفر إلى أحد " الأقطار الشقيقة " .
فبات سهلا عليهم المرور من هنغاريا إلى النمسا , ثم ألمانيا الغربية , وطلب اللجوء السياسي . فمع أفق انهيار " الإمبراطورية " السوفييتية السابقة , إثر وصول ميخائيل غورباتشوف إلى الحكم , وسعيه إلى تقويض الاتحاد السوفييتي من الداخل , كانت النمسا والمجر سباقتين في القضاء على ما كان يعزلهما . فكان لهما ما أرادتا , وتم قص الأسلاك الشائكة الممتدة على حدودهما بصورة رمزية , لكن رسمية , على يدي وزير خارجية البلدين . ففينا وبودابست كانتا تواقتين إلى هدم الستار الفاصل , لاسيما وأنهما , ماضيا , شكلتا دولة واحدة : " إمبراطورية النمسا والمجر" .
على أي حال , شكلت مبادرتهما ثغرة واسعة , شجعت الجيران على حذو حذوهما . كما مكنت مئات آلاف الألمان الشرقيين , في ظرف أسابيع , من اللجوء إلى الغرب , ما كان يعد قبلها " مغامرة خطيرة " , لم يندر أن تنتهي بالموت . وكانت تلك الستارة الحديدية , لأكثر من 40 عاما , شكلت أحد أهم تجليات الحرب الباردة بين الكتلتين منذ غداة الحرب العالمية الثانية .
و" ستارة حديدية " مصطلح استنبطه , عام 1946م , رئيس وزراء بريطانيا الأسبق , ونستون تشرشل , أثناء خطاب رنان في واشنطن , ندد فيه بالغريم السوفييتي بشدة , ويرى بعض المؤرخين أن ذلك الشجب العلني , بلهجته العدائية العنيفة , أسهم في تعميق العداء , وصب النار على زيت الحرب الباردة , التي دامت عقودا .
وفي ألمانيا وحدها , امتدت الستارة الحديدية تلك مسافة 1394كيلومترا , متمثلة في حاجزين معدنيين متوازيين , وأسلاك شائكة ومكهربة , وصفارات إنذار إلكترونية , وقاذفات نارية تلقائية الإطلاق , وطبعا أبراج مراقبة . أما في البلدان الأخرى , ففضلا عن الحواجز المعدنية و الأسلاك الشائكة , حفرت أيضا خنادق عميقة في العديد من المواضع .
جدار برلين الذي " قضى نحبه " يوم 9/11/1989م , يمكن القول إنه كان من برج الاسد , ذلك أنه " ولد " في ليلة 12/13 أغسطس 1961م .إذ بادرت جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية ) إلى بنائه بغتة , بغية وقف " نزيف " هروب مواطنيها إلى الغرب . اليوم , بات " جدار العار " في خبر كان .
فماذا عن جدران عار مشابهة , في أماكن أخرى من العالم , في الضفة الغربية المحتلة , وفي قبرص , وكشمير , وبعض أحياء بغداد ؟
هل يأتي يوم تسوي فيه بالأرض , بدورها ؟ هذا, في أي حال , ما تتمناه الشعوب المبتلاة بها .