الرسمي
03-04-2013, 12:11 PM
أرض تكتب سيرتها
خيري منصور
* دار الخليج
لا يكتمل التزاوج بل التطابق بين التاريخ والجغرافيا إلا في لحظات استثنائية منها الاحتلال، عندئذٍ يصبح كل حجر ذاكرة يرشح منها تاريخ بيوت شيّدت وأخرى هدمت، وباختصار يصبح المكان زماناً، لأن الصراع وجودي وتاريخي قبل أن يكون حدودياً .
وحين سقط ستة شهداء فلسطينيين في أول أيام الأرض قبل سبعة وثلاثين عاماً، كانوا مطلع ربيع فلسطيني بالمعنى الذي يليق بالربيع وليس لمجرد ترجمة التقاويم، ففي الأساطير لابد من الدم كي تخضب الأرض، لهذا بقر الخنرير البري بطن الفتى الذي تصدى له فاندلع العشب من باطن الأرض .
أما تاريخياً، فإن المشهد لا يبتعد كثيراً عن الأسطورة، فهؤلاء الستة اقترنت أسماؤهم بعرس سنوي تعيشه فلسطين رغم مآسي الاحتلال، ذلك أنّ الأرض أيضاً تقاوم ولكن على طريقتها، فهي كمائن لغرباء أرادوا استيطانها، وسجادة خضراء تحنّ إلى أقدام من كانوا منذ البدء توأمها .
وقد يكون يوم واحد للأرض من أيام السنة مجرد احتفاء بورقة زيتون أو عنقود عنب واحد، لكن المسألة ذات بعد رمزي وثمة أيام أطول من أعوام، لأن حاسوبها ليس من التقاويم المألوفة، بل هو من صلب وجدان قومي جريح، ومن أعماق ذاكرة موشومة ببصمات من زرعوا ولم يحصدوا ومن استشهدوا ولم يعادوا، لكنهم عادوا أيضاً على طريقتهم .
في تلك الظهيرة السوداء، أعلن جيش مدجج بأحدث الأسلحة، وأعمق أشكال الكراهية والانتقام، الحرب على فلاحين لم يشهروا بأيديهم غير سنابل قمح، وحجارة لم تكن بوصلتها قد اعطبت، ولم تكن ظهيرة استثنائية لأن هناك ظهيرات سبقنها في كفر قاسم التي حصد جيش الاحتلال أكثر من خمسين فلاحاً منها في دقائق، ثم غرم الضابط الذي أصدر الأمر بالإعدام بقرش واحد تعبيراً عن التنكيل بالموتى بعد رحيلهم، وتدشيناً لتسعيرة صهيونية ترى دمها بالعملة الصعبة، ودم العرب بأرخص العملات المحلية .
لم يكن يوماً عابراً، لهذا يبدو بعد سبعة وثلاثين عاماً كأن شمسه لم تغرب، وأن كل ما أعقبه من أيام هو أوراق على جذعه المدمى . لكن الاحتفاء بيوم الأرض وجد ما ينافسه من أيام العرب الجديدة، فالتقاويم غارقة في الدم، ولم يعد سهلاً التعرف إلى دم القتيل من دم القاتل، مادام حابل الإعلام قد اختلط بنابل الحقائق، وصارت آلات التصوير عوراء لا ترى غير جهة واحدة من المشهد .
هكذا يؤرخ الفلسطينيون لربيعهم الذي يصارع بكل ما فيه من خضرة وبراعم وطيور خريف الاحتلال، لكن هل يبدو الرهان رومانسياً وساذجاً إذا توقع هؤلاء أن العصفور قد ينتصر على الطائرة، وأن سنبلة القمح قد تغلب السكين؟
للإرادة البشرية تعريف آخر يخطئه كل من يصر على أن الطفل سيبقى يحبو إلى الأبد أو أن الغيمة ما خُلقت إلا لتجنب القمر أو لتكون ظل خيمة في السماء .
*** منقول ***
خيري منصور
* دار الخليج
لا يكتمل التزاوج بل التطابق بين التاريخ والجغرافيا إلا في لحظات استثنائية منها الاحتلال، عندئذٍ يصبح كل حجر ذاكرة يرشح منها تاريخ بيوت شيّدت وأخرى هدمت، وباختصار يصبح المكان زماناً، لأن الصراع وجودي وتاريخي قبل أن يكون حدودياً .
وحين سقط ستة شهداء فلسطينيين في أول أيام الأرض قبل سبعة وثلاثين عاماً، كانوا مطلع ربيع فلسطيني بالمعنى الذي يليق بالربيع وليس لمجرد ترجمة التقاويم، ففي الأساطير لابد من الدم كي تخضب الأرض، لهذا بقر الخنرير البري بطن الفتى الذي تصدى له فاندلع العشب من باطن الأرض .
أما تاريخياً، فإن المشهد لا يبتعد كثيراً عن الأسطورة، فهؤلاء الستة اقترنت أسماؤهم بعرس سنوي تعيشه فلسطين رغم مآسي الاحتلال، ذلك أنّ الأرض أيضاً تقاوم ولكن على طريقتها، فهي كمائن لغرباء أرادوا استيطانها، وسجادة خضراء تحنّ إلى أقدام من كانوا منذ البدء توأمها .
وقد يكون يوم واحد للأرض من أيام السنة مجرد احتفاء بورقة زيتون أو عنقود عنب واحد، لكن المسألة ذات بعد رمزي وثمة أيام أطول من أعوام، لأن حاسوبها ليس من التقاويم المألوفة، بل هو من صلب وجدان قومي جريح، ومن أعماق ذاكرة موشومة ببصمات من زرعوا ولم يحصدوا ومن استشهدوا ولم يعادوا، لكنهم عادوا أيضاً على طريقتهم .
في تلك الظهيرة السوداء، أعلن جيش مدجج بأحدث الأسلحة، وأعمق أشكال الكراهية والانتقام، الحرب على فلاحين لم يشهروا بأيديهم غير سنابل قمح، وحجارة لم تكن بوصلتها قد اعطبت، ولم تكن ظهيرة استثنائية لأن هناك ظهيرات سبقنها في كفر قاسم التي حصد جيش الاحتلال أكثر من خمسين فلاحاً منها في دقائق، ثم غرم الضابط الذي أصدر الأمر بالإعدام بقرش واحد تعبيراً عن التنكيل بالموتى بعد رحيلهم، وتدشيناً لتسعيرة صهيونية ترى دمها بالعملة الصعبة، ودم العرب بأرخص العملات المحلية .
لم يكن يوماً عابراً، لهذا يبدو بعد سبعة وثلاثين عاماً كأن شمسه لم تغرب، وأن كل ما أعقبه من أيام هو أوراق على جذعه المدمى . لكن الاحتفاء بيوم الأرض وجد ما ينافسه من أيام العرب الجديدة، فالتقاويم غارقة في الدم، ولم يعد سهلاً التعرف إلى دم القتيل من دم القاتل، مادام حابل الإعلام قد اختلط بنابل الحقائق، وصارت آلات التصوير عوراء لا ترى غير جهة واحدة من المشهد .
هكذا يؤرخ الفلسطينيون لربيعهم الذي يصارع بكل ما فيه من خضرة وبراعم وطيور خريف الاحتلال، لكن هل يبدو الرهان رومانسياً وساذجاً إذا توقع هؤلاء أن العصفور قد ينتصر على الطائرة، وأن سنبلة القمح قد تغلب السكين؟
للإرادة البشرية تعريف آخر يخطئه كل من يصر على أن الطفل سيبقى يحبو إلى الأبد أو أن الغيمة ما خُلقت إلا لتجنب القمر أو لتكون ظل خيمة في السماء .
*** منقول ***