المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ماركيز في عيد الرجل الروسي... النســـاء هن عماد حماية العــالم



الرسمي
04-04-2013, 11:40 AM
ماركيز في عيد الرجل الروسي... النســـاء هن عماد حماية العــالم

* الثورة السوريـة



http://im40.gulfup.com/d09dY.jpg (http://www.gulfup.com/?AD4pUk)




تحول عيد حماة الوطن في روسيا، الذي يصادف الثالث والعشرين من شباط من كل عام، إلى عيد للرجل، ربما كي لا يشعر أن حقه منتقص، وأن عليه فقط أن يقدم التهنئة لكل أنثى في بلاده في الثامن من آذار.

منذ أيام كانت المرة الأولى التي أشارك الروس احتفالهم بهذا اليوم ضمن الصف الذي أتلقى فيه دروساً في الإخراج التلفزيوني والسينمائي.‏

فجأة توقف المحاضر عن الكلام، وطلبت منا فتيات الصف التسكع في الشوارع لساعة من الزمن. لم أفهم معنى ما يحصل، إلى أن قال لي أحد الشباب إنهن يجهزن لنا مفاجأة كبيرة بهذه المناسبة.‏

كانت الأجواء في الاستديو قد تحولت إلى ما يشبه أجواء المهرجانات العالمية، قبل أن تتقدم إحدى الصبايا بكامل أناقتها مفتتحة جلسة توزيع جوائز الأوسكار على شباب المجموعة، مخرجي المستقبل.‏

بكثير من المرح والتصفيق كان كل طالب- مخرج يتقدم لاستلام جائزته، أما جائزتي فقد كانت جائزة ضيف من وراء البحار، مع فرصة لقول ما أريد كوني الأجنبي الوحيد في المجموعة.‏

أخبرتهم أنني كثيراً ما سئلت لماذا اخترت روسيا دون سواها للدراسة، وكان جوابي دائماً: لأن شيئاً في روحي يعشق هذه الأرض.‏

بعد الحفل خضنا في مناقشات كثيرة، أوصلتنا إلى محطة الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي تمنى أحد الطلاب إخراج روايته الشهيرة: (الحب في زمن الكوليرا).‏

بعض من قرؤوا مذكرات ماركيز «عشت لأروي»، سألوني عن رأيي فيها، وبمساعدتهم استطعت ترجمة تلك الجملة الساحرة التي افتتح بها رواية الحب في زمن الكوليرا: «رائحة اللوز المر، كانت تذكره بمصير الغراميات غير المواتية».‏

أخبرتهم أنني كنت أُمنِّي النفس عندما شرعت بقراءة الجزء الأول من مذكرات ماركيز، ألا تخترقني رائحة اللوز المر ولا غيرها من روائح روايات ماركيز. كنت مستنفر الحواس لاستنشاق روائح جديدة لم ألتقطها من قبل في أي من أعمال ماركيز التي قرأتها. إلا أن صفحات قليلة كانت تفصلني عن الاصطدام بجدار حقيقة مفادها أن ماركيز قرر بعدما تجاوز الخمسين من عمره استخدام قصة حب والديه في الرواية ذاتها: الحب في زمن الكوليرا، بعدها لم يعد مهماً بالنسبة إلي ذكره لتفاصيل قصة البلجيكي الذي مات باستنشاق رائحة اللوز المر المنطلقة من السيانور، التي سبق أن قرأتها في الرواية. كما حافظت على هدوئي وهو يعلمني أن جده الحقيقي هو ذلك الكولونيل الذي لم يعد يكاتبه أحد.‏

وافقني البعض، بينما رأى آخرون أن حياة الكاتب هي المصدر الأول لأعماله الروائية.‏

تابعت أن خمولاً ما اعترى حماستي للقراءة، إلا أن ما كان يدفعني للمتابعة، بل حتى إلى إعادة قراءة المذكرات الماركيزية ثانية، هو شهوة الغوص من جديد في عوالم تلك العلاقة الخاصة التي أفرد لها ماركيز مساحة مطولة، والتي جمعته بالنساء عامة وبأمه خاصة. ويبدو أن النساء اللاتي عملت الكثيرات منهن خادمات في منزل العائلة، أسدين بعملهن هذا خدمة كبيرة إلى ماركيز الذي يستعيد صورة تلك العلاقة بقوله: (أعتقد أنه يمكن لعلاقتي الحميمة بالخدم، أن تكون الأصل في خيط تواصل سري، أظن أنني أمتلكه مع النساء، أتاح لي على امتداد حياتي الشعور بالراحة والأمان بينهن أكثر مما أشعر بهما بين الرجال. ويمكن أن تكون قد أتت من هناك أيضاً قناعتي بأنهن هن عماد حماية العالم، بينما نشيع، نحن الرجال، فيه الفوضى بهمجيتنا التاريخية).‏

عند هذه النقطة تحولت إلى المحتفى به الأبرز في ذلك المساء، وارتفعت أسهمي عند حسناوات بيتربورغ، ما شجعني لأضيف برغم تعثري اللغوي، أن ماركيز يَدين في مكان آخر من الكتاب بجوهر طريقته في الحياة والتفكير إلى نساء الأسرة اللواتي رعين طفولته، وتمتعن- بحسب قوله- بقوة الشخصية وطيبة القلب، وعاملنه بتلقائية الفردوس الأرضي. كل ذلك داخل جدران بيت جنوني لم يتخيل ماركيز وسطاً أكثر ملاءمة لميله منه.‏

كنت أشعر أن أحداث مذكرات ماركيز راحت تعبر من أمامي، وتقودني للحديث في أمر علاقته بوالدته التي استهل المذكرات بالحديث عن لقائه بها، وهو حديث من نوع خاص جداً، إذ يبدو واضحاً ذلك التأثير الكبير الذي تركته الأم في شخصية ابنها الذي لم يكن يشعر نحوها بذلك الحب البنوي المفهوم فقط، بل بإعجاب مذهل بطبعها كلبوة صامتة وإنما ضارية في مواجهة المصاعب. امرأة تعرف كيف تحتفظ برقة أتاحت لها إخفاء قوة طبعها الرهيب، وثقة بالنفس لم تخنها في أصعب المواقف.‏

تغادر الأم القرية وتصل إلى بارانكيا، وتطلب منه مرافقتها لبيع بيت الجدين القديم، وفي طريق الرحلة التي يخوضانها معاً تبدأ حرب أعصاب لا هوادة فيها. تبدي الأم استياءها من تركه كلية الحقوق بعد تضحيات كبيرة قدمتها له مع والده الذي كان مستعداً أن يغفر أي شيء باستثناء عدم تزيين الجدار بشهادة جامعية، لم يستطع هو الحصول عليها.‏

أما ماركيز الذي هجر الجامعة في السنة السابقة، معللاً النفس بالوهم الجريء في العيش من الصحافة والأدب دون حاجة إلى تعلمهما -كما قال- فقد أصر أن الشيء الوحيد الذي يريده في الحياة هو أن يصبح كاتباً، وسوف يصبح كذلك، يطلب منها أن تخبر والده ما سمعت، فترد: هو لا يعترض على أن تكون ما تشاء، على أن تنال شهادة في أي شيء. فيقول ماركيز: لا أدري لماذا تُلحِّين إلى هذا الحد، مع أنك تعرفين أنني لن أستسلم؟ تنظر في عينيه على الفور وتسأله مبهورة: ولماذا تظن أنني أعرف؟ يجيب: لأننا أنا وأنت متشابهان.‏

متشابهان، أجل، إن تلك المرأة الاستثنائية، المتماسكة في أحلك الظروف، والتي لا تعرف كيف تستسلم بل تعتمد البحث لتجد خاصرة ضعيفة تكسر من خلالها قرار خصمها، طبعت ماركيز بطبعها. ماركيز الذي بقي مصراً على تحقيق حلمه، ولم يكسب منذ ذلك الوقت -كما يقول- سنتاً واحداً إلا من الآلة الكاتبة، ما يذكرني بما قاله الكاتب الفرنسي جول ميشليه: (من القواعد المقررة أن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم).‏

وما دمنا نتحدث في أمر إصرار ماركيز على اختيار طريقه بذاته، فلنختم بما قاله الدكتور ألفريدو باربوثا، صاحب الصيدلية، عندما اشتكت أم ماركيز أمامه من ابنها وقراره ترك الجامعة قائلة: تصور أيها الجار، إنه يريد أن يصير كاتباً. فيرد الدكتور ألفريدو متحدثاً عن الميل الفني داخل الإنسان: إنه أكثر الميول سرية وغموضاً، لأن المرء يكرس له حياته كاملة دون أن يأمل منه شيئاً. إنه شيء يحمل في الداخل، منذ الولادة، معاكسته أسوأ ضرر للصحة.‏

تصيب هذه الكلمات ماركيز بالانبهار، ويشعر أن الدكتور وضح بكلماته ما لم يستطع هو توضيحه. لذلك يقول لأمه عندما تسأله عن أفضل طريقة لقول كل هذا لأبيه: بالطريقة التي سمعناها منه تواً، بالضبط.‏

انتهى نقاشنا الماركيزي الممتع، وأحسست أني لم أتجرأ على استخدام لغتي الروسية كما فعلت في ذلك المساء، قبل أن أقرر العودة إلى غرفتي سيراً على الأقدام، مستنشقاً هواء يبشر بربيع قادم، ويجدد في كل لحظة تفاصيل أمسية ستبقى في الذاكرة طويلاً.‏



*** منقول ***