حواليكم
17-05-2013, 02:50 PM
أمن تذكر جيران بذي سلم (البوصيري)
معاهد تذكاري سقتك الغمائم (أبو مسلم البهلاني)
والذكريات صدى السنين الحاكي (احمد شوقي)
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني (عنترة)
تذكرت ليلى والسنين الخواليا (قيس العامري)
فقا نبك من ذكرى حبيب و منزل (أمرؤ القيس)
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/918835854.jpg (http://www.0zz0.com)
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/772502852.jpg (http://www.0zz0.com)
قد توقدها رائحة عطرية زكية، أو يتسبب في استعادتها المرور بعلامة مكانية، أو لحظة زمانية، و قد يصحصحها من غفوتها ...هدية، هكذا هي الذاكرة ...خزانة تاريخ الانسانية.
لكل منا ذاكرة، ربما تختلف في قوة تذكرها للاحداث والاشخاص والارقام و تحليل كل ذلك و ربطه ببعضه البعض، لكنها في النهاية تسحرنا بما تسعفنا به من ذكريات و لتصنع منا أما:- ساردين لسيرنا الذاتية او رواة لسير الاخرين الذاتية.
وللذاكرة عند العرب أهتمام خاص تجسد في أشعارهم وادبهم، فالكثير من أشعارهم تبدأ بالوقوف على الاطلال حيث الحنين الى عهودهم الرائعة. كما ورد في ادبهم و قصصهم ذكرياتهم التي استمتعنا بها في قراءاتنا ولا ننسى فن المقامات الذي ابدع فيه العرب باسلوب شيق و رشيق ليجد فيه القاريء المتعة المطلقة اثناء القراءة و في الادب الحديث كتب الكتاب يومياتهم ومذكراتهم وسيرهم الذاتية.
وفي ميادين المدارس ذكريات .. و لدى كل تربوي ومعلم قصص و روايات و ذكريات .. شكلت محاور أحاديثهم و نقاط ارتكزوا عليها في نقاشاتهم ، حيث وجدت تلك القصص اهتماما خاصا من الراوي لها ، فهي جزء من حياته او حياة غيره يقدمها بأسلوب قصصي جاذب لمن يستمع اليه، و هي أيضا تجد أهتماما خاصا ممن يستمع أليها فهو يجد المتعة والفائدة في الاستماع أليها. وقبل يومين كنت في زيارة لمدرسة و في معرض النقاش قالت مديرة المدرسة: " انني لا زلت احتفظ برسائل و هدايا بيني و بين طالبة لي منذ 1999 و التي حين حضرت عرسها ذكرتها بتلك الرسائل و الهدايا!" كلمات رائعة من مديرة رائعة .. مديرة تجد في الذكريات استمرارية العلاقات! فكل الشكر لها ، حيث أنها تعدت العلاقة السطحية العابرة التي تحتويها غرف صفية... علاقة خرجت خارج البناء الإسمنتي و تشكلت بعمق في الشعور الوجداني الإنساني و في القيم البشرية.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/821112805.jpg (http://www.0zz0.com)
كانت تلك مقدمة - اتمنى انها لم تكن مملة - لبعض من سراج ذاكرتي التي أوقدتها "هدية" عمرها 16 عاما و بالتحديد 13 مايو 1997 حينما تقدم ألي ذات يوم دراسي طالب الصف الاول الاعدادي حينها "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" ..كانت يده في جيبه ... أخرج منها قلم حبر جاف لون غطائه الخارجي أسود لكن حبره أزرق .. مد بالقلم ألي قائلا بلهجته الظفارية اللطيفة:
"أستاذ .. تفضل هذي هدية مني لك!"
.. نظرت الى عينيه ... كانتا صغيرتان تبحران في لمعان رائع مختلج المشاعر بين فرح و حزن .. أبتسمت له..مددت يدي فأخذتها وشكرته .. رجعت الى شقتنا بولاية طاقة في نهار ذلك اليوم .. ألصقت على القلم أسم "سعيد بن سالم بن علي المشيخي 13/5/1997م و حفظتها في صندوق.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/156459637.jpg (http://www.0zz0.com)
لم يكن لقائي ب"سعيد" لقاءا عابرا، و لم يكن بيني و بينه فقط ذلك الموقف ، ففي شهر نوفمبر 1994 تم نقلي من "حيرون" التي قضيت فيها اول شهرين لي في مهنة التدريس الى مدرسة "طوي اعتير" بولاية مرباط في محافظة ظفار. حيث تم تكليفي بتدريس طلبة صفوف رابع و خامس و سادس، كانوا اكثر من 300 طالب من العدد الاجمالي لطلاب المدرسة والذي بلغ عددهم 800 طالب تقريبا فالمدرسة كانت تضم صفوف 1- 12.
في سنة 1994-1995 كان "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" حينها في صف الخامس الذي كان يدرس ايضا فيه اخوه "عامر" رحمه الله الذي توفي في شهر اغسطس من عام 1996. "عامر" الذي لا زلت أحتفظ بتسجيل لصوته و هو يتحدث عن نفسه:
I am Amer. I am from Tawi Attair. Tawi Attair is a village ….”
ولا زلت احتفظ برسائله البريدية التي كتبها بخط يده الجميل البديع.
"سعيد و عامر" كانا نموذجين رائعين للطلبة المثاليين .. أخلاق راقية و همة للعلم عالية مع تواضع كريم... توفي "عامر" رحمه الله بالربو بعد محاولات لعلاجه داخل و خارج السلطنة.. كنت ازوره بالمركز الصحي بطوي اعتير وبمستشفى السلطان قابوس بصلالة ، كان يطلب مني ان اختبره في المادة فهو طالب كالاخرين و يريد ان يعرف مستواه في المادة.. كنت ادعو له بالصحة واقول له:
"حينما تعود للمدرسة سوف اختبرك؟" ، لكن عامر يصر على الاختبار ، فأزوره اليوم التالي و اختبره و كانت المفاجاة ان درجاته 30 من 30..كان ذكيا جدا رحمه الله ...لا زلت اتذكر حرارة انفاسه حينما يصافحني و كأنها حدثت منذ ثوان قليلة ماضية. وفي شهر اغسطس من 1996 كنت امشي بين الحارات في ولاية طاقة ، فألتقيت به ..تصافحنا و اخبرني بأنه كان في الهند للعلاج ..بعدها بيومين علمت من معلم اخر .. ان عامرا كان يلعب الكرة التي عشقها مع اقرانه، قال لهم انه متعب، دخل بيت خالته فقال لها اريد ان ارتاح وسأغلق الباب، كان ذلك اخر لقاء له باهله في الدنيا حيث وجدوه قد فارق الحياة و هو على السرير. رحمه الله.
"سعيد" كان كمثل اخيه..في يوم من ايام 1996/1997 كنت بداخل الصف وكان الطلبة يعلمون مقدار حبي للشعر والاستماع اليه، كنت لحظتها اصحح لهم اعمالهم الكتابية حينما تقدم الي سعيد وقال لي انه يحفظ بيتين للشعر كانا قد ظهرا بالامس على شاشة التلفزيون، فقلت له أسمعني ما تحفظ، قال سعيد:
اتعبت نفسي في عمارة منزلي... زخرفته و جعلته لي مسكنا!
حتى وقفت على القبور فقال لي...عقلي: "ستنقل من هناك الى هنا"!
كان سريع البديهة والحفظ ... حفظ البيتين من اول مرة ظهرا على شاشة التلفاز ... بعدها بايام جاء الي المعلم المسؤول عن نشاط الاذاعة يبحث عن طالب يقول بيتين من الحكمة في الاذاعة، تذكرت سعيد فناديته، و برغم من حجمه الصغير الا انه انطلق كرجل كبير، واثق من نفسه و من معلوماته ، تقدم مرتجلا الى مقدمة الطابور و امسك بالمايكروفون وانشد البيتين.
العام الدراسي 1996/1997 كان اخر عام دراسي لي بظفار و بالتحديد في مدرسة طوي اعتير بعد ان قضيت فيها 3 اعوام متتالية تخللتها تنقلات الى مدرسة طيطام لمدة شهرين بعد ان تم التراجع عن قرار نقلي الى مدرسة الحفرة! في ذلك العام ودعت طلاب طوي اعتير لكني وعدتهم ان لا انساهم و اني سابقى على تواصل دائم معهم ، ومع اقتراب نهاية العام الدراسي و بالتحديد في 13 / 5 / 1997 تقدم الي "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" و كانت يده في جيبه ... أخرج منها قلم حبر جاف لون غطائه الخارجي أسود لكن حبره أزرق .. مد بالقلم ألي قائلا بلهجته الظفارية اللطيفة:
"أستاذ .. تفضل هذي هدية مني لك!"
.. نظرت الى عينيه ... كانتا صغيرتان تبحران في لمعان رائع مختلج المشاعر بين فرح التحدث الى شخص عزيز عليه و حزن لانه موقف وداع .. أبتسمت له..مددت يدي فأخذتها وشكرته وتذكرت ابيات شعر قالها شاعر يحكي قصة سليمان عليه السلام و الهدهد في يوم العيد حينما جاءت الكائنات بهداياها و لم يجد الهدهد هدية الا جرادة او فراشة، فقال الشاعر واصفا:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة *** و اطعمته من فراش كان في فيها!
وأنـشـدت بـلسـان الحــال قــائــلة *** ان الهـــدايـــا علــى مقدار مهديها!
لو كان يهدى الى الانسان قيمته *** لكان يهـدى لـك الدنيـا و مـا فيها!
رجعت الى شقتي بولاية طاقة في نهار ذلك اليوم .. ألصقت على القلم أسم "سعيد بن سالم بن علي المشيخي 13/5/1997م و حفظته في صندوق خاص.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/587962387.jpg (http://www.0zz0.com)
لم يتوقف التواصل بيني و بين طلبة طوي اعتير مطلقا، وساتحدث في الجزء الثاني من هذه المقالة عن ذلك التواصل، و كنت متابعا لاخبارهم و مستوياتهم العلمية ، "سعيد" كان دائم التواصل ايضا حتى و بعد ان ألتحق بجامعة السلطان قابوس لفترة بسيطة ثم قرر الالتحاق بسلاح الجو السلطاني، وبعد تخرجه سنحت لي الفرصة انأ لتقيه ذات مساء لاعطيه نسخة من شريط كنت قد تعودت ان اسجل طلابي و هم يتحدثون عن انفسهم باللغة الانجليزية و كان سعيد من ضمنهن بلا شك. و للعلم فأن التواصل بين مجموعة من طلاب طوي اعتير و بيني لا زال مستمرا، فكل صباح هناك بطاقة تحية صباحية نتبادلها عبر الواتساب..فسبحان الله كيف تطورت وسائل التواصل و اصبحت اسهل لاجل الاحتفاظ برغم من طول السنيين و المسافات بعلاقات صادقة مع الصادقيين.
قبل ايام قليلة .. تقدمت ألي أبنتي الصغيرة "يمنى" تحمل " التقرير الوصفي" و تطلب مني التوقيع..لم اجد قلما ، فذهبت هي تبحث عن قلم من ذلك الصندوق و اخرجت هدية "سعيد" ، لم اتوقع ان القلم بعد 16 عاما لا يزال حبره لم يجف و لن يجف. تعجبت من ان القلم لا زال حبره يستطيع الكتابة..ما السر؟ هل هي كيمياء المواد ؟! أم أنها كيمياء الوجدانيات البشرية و الروح التي تعلقنا بمن عاشوا حولنا و معنا لفترة زمنية محددة؟!
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/637257723.jpg (http://www.0zz0.com)
"سعيد" أيها العزيز .. أبعث أليك برسالتي هذه و انت تمارس عملك بين السماء والارض، تحمي للوطن حدوده و فضاءه، لاقول لك بأن الوطن لا تجف اقلامه الصادقة و انتم منبع تلك الاقلام .. حفظ الله الوطن والسلطان و حفظ الله لنا اولئك الصادقين الرائعين الذين يحيطون أنفسهم بعلاقات انسانية رائعة لا تجف أبدا.. و اجمل تلك العلاقات حينما يتواصل معلم و طالب لفترة طويلة يحفظ فيها كل واحد منهما تاريخ الاخر و شيئا من خصوصياته!
*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) .. (http://forum.moe.gov.om/~moeoman/vb/showthread.php?t=508717&goto=newpost)
معاهد تذكاري سقتك الغمائم (أبو مسلم البهلاني)
والذكريات صدى السنين الحاكي (احمد شوقي)
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني (عنترة)
تذكرت ليلى والسنين الخواليا (قيس العامري)
فقا نبك من ذكرى حبيب و منزل (أمرؤ القيس)
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/918835854.jpg (http://www.0zz0.com)
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/772502852.jpg (http://www.0zz0.com)
قد توقدها رائحة عطرية زكية، أو يتسبب في استعادتها المرور بعلامة مكانية، أو لحظة زمانية، و قد يصحصحها من غفوتها ...هدية، هكذا هي الذاكرة ...خزانة تاريخ الانسانية.
لكل منا ذاكرة، ربما تختلف في قوة تذكرها للاحداث والاشخاص والارقام و تحليل كل ذلك و ربطه ببعضه البعض، لكنها في النهاية تسحرنا بما تسعفنا به من ذكريات و لتصنع منا أما:- ساردين لسيرنا الذاتية او رواة لسير الاخرين الذاتية.
وللذاكرة عند العرب أهتمام خاص تجسد في أشعارهم وادبهم، فالكثير من أشعارهم تبدأ بالوقوف على الاطلال حيث الحنين الى عهودهم الرائعة. كما ورد في ادبهم و قصصهم ذكرياتهم التي استمتعنا بها في قراءاتنا ولا ننسى فن المقامات الذي ابدع فيه العرب باسلوب شيق و رشيق ليجد فيه القاريء المتعة المطلقة اثناء القراءة و في الادب الحديث كتب الكتاب يومياتهم ومذكراتهم وسيرهم الذاتية.
وفي ميادين المدارس ذكريات .. و لدى كل تربوي ومعلم قصص و روايات و ذكريات .. شكلت محاور أحاديثهم و نقاط ارتكزوا عليها في نقاشاتهم ، حيث وجدت تلك القصص اهتماما خاصا من الراوي لها ، فهي جزء من حياته او حياة غيره يقدمها بأسلوب قصصي جاذب لمن يستمع اليه، و هي أيضا تجد أهتماما خاصا ممن يستمع أليها فهو يجد المتعة والفائدة في الاستماع أليها. وقبل يومين كنت في زيارة لمدرسة و في معرض النقاش قالت مديرة المدرسة: " انني لا زلت احتفظ برسائل و هدايا بيني و بين طالبة لي منذ 1999 و التي حين حضرت عرسها ذكرتها بتلك الرسائل و الهدايا!" كلمات رائعة من مديرة رائعة .. مديرة تجد في الذكريات استمرارية العلاقات! فكل الشكر لها ، حيث أنها تعدت العلاقة السطحية العابرة التي تحتويها غرف صفية... علاقة خرجت خارج البناء الإسمنتي و تشكلت بعمق في الشعور الوجداني الإنساني و في القيم البشرية.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/821112805.jpg (http://www.0zz0.com)
كانت تلك مقدمة - اتمنى انها لم تكن مملة - لبعض من سراج ذاكرتي التي أوقدتها "هدية" عمرها 16 عاما و بالتحديد 13 مايو 1997 حينما تقدم ألي ذات يوم دراسي طالب الصف الاول الاعدادي حينها "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" ..كانت يده في جيبه ... أخرج منها قلم حبر جاف لون غطائه الخارجي أسود لكن حبره أزرق .. مد بالقلم ألي قائلا بلهجته الظفارية اللطيفة:
"أستاذ .. تفضل هذي هدية مني لك!"
.. نظرت الى عينيه ... كانتا صغيرتان تبحران في لمعان رائع مختلج المشاعر بين فرح و حزن .. أبتسمت له..مددت يدي فأخذتها وشكرته .. رجعت الى شقتنا بولاية طاقة في نهار ذلك اليوم .. ألصقت على القلم أسم "سعيد بن سالم بن علي المشيخي 13/5/1997م و حفظتها في صندوق.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/156459637.jpg (http://www.0zz0.com)
لم يكن لقائي ب"سعيد" لقاءا عابرا، و لم يكن بيني و بينه فقط ذلك الموقف ، ففي شهر نوفمبر 1994 تم نقلي من "حيرون" التي قضيت فيها اول شهرين لي في مهنة التدريس الى مدرسة "طوي اعتير" بولاية مرباط في محافظة ظفار. حيث تم تكليفي بتدريس طلبة صفوف رابع و خامس و سادس، كانوا اكثر من 300 طالب من العدد الاجمالي لطلاب المدرسة والذي بلغ عددهم 800 طالب تقريبا فالمدرسة كانت تضم صفوف 1- 12.
في سنة 1994-1995 كان "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" حينها في صف الخامس الذي كان يدرس ايضا فيه اخوه "عامر" رحمه الله الذي توفي في شهر اغسطس من عام 1996. "عامر" الذي لا زلت أحتفظ بتسجيل لصوته و هو يتحدث عن نفسه:
I am Amer. I am from Tawi Attair. Tawi Attair is a village ….”
ولا زلت احتفظ برسائله البريدية التي كتبها بخط يده الجميل البديع.
"سعيد و عامر" كانا نموذجين رائعين للطلبة المثاليين .. أخلاق راقية و همة للعلم عالية مع تواضع كريم... توفي "عامر" رحمه الله بالربو بعد محاولات لعلاجه داخل و خارج السلطنة.. كنت ازوره بالمركز الصحي بطوي اعتير وبمستشفى السلطان قابوس بصلالة ، كان يطلب مني ان اختبره في المادة فهو طالب كالاخرين و يريد ان يعرف مستواه في المادة.. كنت ادعو له بالصحة واقول له:
"حينما تعود للمدرسة سوف اختبرك؟" ، لكن عامر يصر على الاختبار ، فأزوره اليوم التالي و اختبره و كانت المفاجاة ان درجاته 30 من 30..كان ذكيا جدا رحمه الله ...لا زلت اتذكر حرارة انفاسه حينما يصافحني و كأنها حدثت منذ ثوان قليلة ماضية. وفي شهر اغسطس من 1996 كنت امشي بين الحارات في ولاية طاقة ، فألتقيت به ..تصافحنا و اخبرني بأنه كان في الهند للعلاج ..بعدها بيومين علمت من معلم اخر .. ان عامرا كان يلعب الكرة التي عشقها مع اقرانه، قال لهم انه متعب، دخل بيت خالته فقال لها اريد ان ارتاح وسأغلق الباب، كان ذلك اخر لقاء له باهله في الدنيا حيث وجدوه قد فارق الحياة و هو على السرير. رحمه الله.
"سعيد" كان كمثل اخيه..في يوم من ايام 1996/1997 كنت بداخل الصف وكان الطلبة يعلمون مقدار حبي للشعر والاستماع اليه، كنت لحظتها اصحح لهم اعمالهم الكتابية حينما تقدم الي سعيد وقال لي انه يحفظ بيتين للشعر كانا قد ظهرا بالامس على شاشة التلفزيون، فقلت له أسمعني ما تحفظ، قال سعيد:
اتعبت نفسي في عمارة منزلي... زخرفته و جعلته لي مسكنا!
حتى وقفت على القبور فقال لي...عقلي: "ستنقل من هناك الى هنا"!
كان سريع البديهة والحفظ ... حفظ البيتين من اول مرة ظهرا على شاشة التلفاز ... بعدها بايام جاء الي المعلم المسؤول عن نشاط الاذاعة يبحث عن طالب يقول بيتين من الحكمة في الاذاعة، تذكرت سعيد فناديته، و برغم من حجمه الصغير الا انه انطلق كرجل كبير، واثق من نفسه و من معلوماته ، تقدم مرتجلا الى مقدمة الطابور و امسك بالمايكروفون وانشد البيتين.
العام الدراسي 1996/1997 كان اخر عام دراسي لي بظفار و بالتحديد في مدرسة طوي اعتير بعد ان قضيت فيها 3 اعوام متتالية تخللتها تنقلات الى مدرسة طيطام لمدة شهرين بعد ان تم التراجع عن قرار نقلي الى مدرسة الحفرة! في ذلك العام ودعت طلاب طوي اعتير لكني وعدتهم ان لا انساهم و اني سابقى على تواصل دائم معهم ، ومع اقتراب نهاية العام الدراسي و بالتحديد في 13 / 5 / 1997 تقدم الي "سعيد بن سالم بن علي المشيخي" و كانت يده في جيبه ... أخرج منها قلم حبر جاف لون غطائه الخارجي أسود لكن حبره أزرق .. مد بالقلم ألي قائلا بلهجته الظفارية اللطيفة:
"أستاذ .. تفضل هذي هدية مني لك!"
.. نظرت الى عينيه ... كانتا صغيرتان تبحران في لمعان رائع مختلج المشاعر بين فرح التحدث الى شخص عزيز عليه و حزن لانه موقف وداع .. أبتسمت له..مددت يدي فأخذتها وشكرته وتذكرت ابيات شعر قالها شاعر يحكي قصة سليمان عليه السلام و الهدهد في يوم العيد حينما جاءت الكائنات بهداياها و لم يجد الهدهد هدية الا جرادة او فراشة، فقال الشاعر واصفا:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة *** و اطعمته من فراش كان في فيها!
وأنـشـدت بـلسـان الحــال قــائــلة *** ان الهـــدايـــا علــى مقدار مهديها!
لو كان يهدى الى الانسان قيمته *** لكان يهـدى لـك الدنيـا و مـا فيها!
رجعت الى شقتي بولاية طاقة في نهار ذلك اليوم .. ألصقت على القلم أسم "سعيد بن سالم بن علي المشيخي 13/5/1997م و حفظته في صندوق خاص.
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/587962387.jpg (http://www.0zz0.com)
لم يتوقف التواصل بيني و بين طلبة طوي اعتير مطلقا، وساتحدث في الجزء الثاني من هذه المقالة عن ذلك التواصل، و كنت متابعا لاخبارهم و مستوياتهم العلمية ، "سعيد" كان دائم التواصل ايضا حتى و بعد ان ألتحق بجامعة السلطان قابوس لفترة بسيطة ثم قرر الالتحاق بسلاح الجو السلطاني، وبعد تخرجه سنحت لي الفرصة انأ لتقيه ذات مساء لاعطيه نسخة من شريط كنت قد تعودت ان اسجل طلابي و هم يتحدثون عن انفسهم باللغة الانجليزية و كان سعيد من ضمنهن بلا شك. و للعلم فأن التواصل بين مجموعة من طلاب طوي اعتير و بيني لا زال مستمرا، فكل صباح هناك بطاقة تحية صباحية نتبادلها عبر الواتساب..فسبحان الله كيف تطورت وسائل التواصل و اصبحت اسهل لاجل الاحتفاظ برغم من طول السنيين و المسافات بعلاقات صادقة مع الصادقيين.
قبل ايام قليلة .. تقدمت ألي أبنتي الصغيرة "يمنى" تحمل " التقرير الوصفي" و تطلب مني التوقيع..لم اجد قلما ، فذهبت هي تبحث عن قلم من ذلك الصندوق و اخرجت هدية "سعيد" ، لم اتوقع ان القلم بعد 16 عاما لا يزال حبره لم يجف و لن يجف. تعجبت من ان القلم لا زال حبره يستطيع الكتابة..ما السر؟ هل هي كيمياء المواد ؟! أم أنها كيمياء الوجدانيات البشرية و الروح التي تعلقنا بمن عاشوا حولنا و معنا لفترة زمنية محددة؟!
http://www7.0zz0.com/2013/05/17/09/637257723.jpg (http://www.0zz0.com)
"سعيد" أيها العزيز .. أبعث أليك برسالتي هذه و انت تمارس عملك بين السماء والارض، تحمي للوطن حدوده و فضاءه، لاقول لك بأن الوطن لا تجف اقلامه الصادقة و انتم منبع تلك الاقلام .. حفظ الله الوطن والسلطان و حفظ الله لنا اولئك الصادقين الرائعين الذين يحيطون أنفسهم بعلاقات انسانية رائعة لا تجف أبدا.. و اجمل تلك العلاقات حينما يتواصل معلم و طالب لفترة طويلة يحفظ فيها كل واحد منهما تاريخ الاخر و شيئا من خصوصياته!
*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) .. (http://forum.moe.gov.om/~moeoman/vb/showthread.php?t=508717&goto=newpost)