المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءات مضادة للتاريخ ( خيري منصـور )



الرسمي
06-08-2013, 04:00 AM
قراءات مضادة للتاريخ

خيري منصـور

* دار الخليج





من قرأوا التاريخ لمجرد التسلية خرجوا من صفحاته ولم يتثاءبوا، لأن جولاتهم السياحية بين أطلاله وعند منعطفاته الحاسمة تصيبهم بالنعاس، لكن قراءة التاريخ من باب آخر، وبوعي وفضول معرفي هي أشبه بلقاحات باسلة ومضادة للوباء، سواء كان سياسياً أو أخلاقياً، لكن التاريخ ليس حكايات أو دراما متصلة بأبطالها وما ينسب إليهم من الخوارق التي تخرجهم من النطاق البشري، وكما يقول جورج سانتيانا فإن من حرموا أنفسهم من وعي الماضي سيعاقبون أيضاً بالحرمان من وعي الحاضر والمستقبل معاً، لهذا تتكرر الأخطاء وتنتهي إلى كوميديا أرضية أقل جدية ورصانةً كما سماه شكسبير في زمانه كوميديا الأخطاء .

والإنسان في مطلع هذه الألفية ليس المخلوق الأول الذي يجابه بكارة العالم بحيث يبدأ من أول السطر، فما مِنْ حَدَثٍ حتى لو كان جللاً إلا وهو مسبوق بمثله أو بما هو أشد منه، لكن الذاكرة التي تختزن ذكريات عن وقائع لم تعشها أو تكابد شرورها تُحول هذه الوقائع إلى روايات قد تُقْرأ بالقرب من مدفأة الحائط في ليالي الشتاء الطويلة، لكنها منزوعة المرارة والحرارة معاً .

وحين قال أحد شعراء الإنجليز في مطلع القرن الماضي إن هناك بوابات ساخنة للتاريخ وجد من المؤرخين والنقاد من يُؤَوّلون هذه البوابات بحيث شملت حروباً ومعابد وإمبراطوريات، رغم أن الشاعر لم يقصد ذلك على الإطلاق، لكن ما حدث هو أن ما قاله شاعرنا المتنبي يتكرر دائماً، وهو: أنامُ مِلْءَ جفوني عَنْ شوارِدِها ويسهر الخَلْق جَرّاها ويختصمُ .

والتاريخ حتى عندما يُصاغ في حكايات فهي ليست تنويمة للبالغين على غرار ما يكتب من تنويمات للأطفال، لأن في هذه الروايات أجراساً لا تكف عن الرّنين، ما دامت هناك حضارات سادت ثم بادت، وإمبراطوريات لم تكن الشمس تغيب عنها فغاب عنها حتى القمر .

وإذا كانت معرفة السبّب تُبطل العجب كما يقال، فإن قراءة التاريخ تحررنا من هذا الاندهاش إزاء ما يحدث .

فإن كان ما يحدث هو مشاهد دم وإبادة فقد حدث هذا مراراً، ولكيلا نذهب بعيداً باتجاه الماضي يكفي أن نتذكر المليون قتيل في رواندا وما يقارب هذا الرقم في البوسنة .

وتبعاً لما يقوله أبرز المؤرخين في عصرنا فإن السلام على هذا الكوكب لم يكن إلا مجرد جملة معترضة أو هُدْنة يعاد فيها شحذ السلاح، لأن نزعة العدوان لدى البشر تبقى بكل اندفاعاتها الغريزية، وما يتغير هو فقط تطور الأسلحة .

ولن يستطيع الإنسان المعاصر أن يتلقح بأَمْصال الماضي ضد أوبئة الحاضر إلا إذا جعل من حكايات التاريخ أجراساً وليس مجرد تنويمات تستدعي النعاس .



*** منقول ***