الرسمي
19-08-2013, 08:30 AM
رحيل سليمان العيسى “مضرَّجاً” بأحلامه
شوقي بزيع
* دار الخليج
ليس سليمان العيسى واحداً من الشعراء العرب الذين يمكن نسيانهم بسهولة أو القفز دون مبالاة فوق نبأ رحيلهم عن هذا العالم، ففي ظل هذا الاسم الشهير ولد ملايين الأطفال العرب وكبروا وشاخوا وهم يرددون قصائده القومية التي تحولت إلى أناشيد، وفي كنف هذا الشاعر التسعيني ترسخت فكرة الارتباط الوثيق بين الشعر وقضايا الأمة التي ينتمي إليها، حتى بدا العيسى على امتداد حياته الطويلة حادي الجماعة ومنشدها ومؤرخ آلامها وأحلامها، والناطق باسم انكساراتها وانتصارتها، تماماً كما كان الأمر في الأزمنة القديمة .
لم يأبه صاحب “الدم والنجوم الخضر” كثيراً لمتغيرات الشعر العربي التي أدركت تجربته وهي ما تزال في ريعانها، فالشاعر الذي ولد قبل بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي بسنوات قليلة، لم يكن معنياً بالانقلاب على التقاليد البنيوية والمفهومية للشعرية العربية، بقدر ما كان معنياً بالوظيفة الاجتماعية والأيديولوجية للشعر، حيث الشاعر هو الداعية والصناجة والمبشر بوحدة الأمة وانبعاثها من الرماد، ومع ذلك فقد كانت “الأسطورة المؤسسة” لشاعرية العيسى تتغذى من الجرح الأصلي الذي لا يندمل، أعني به سلخ لواء الإسكندرون الذي ينتمي إليه الشاعر عن الكيان السوري الأم وضمه إلى تركيا، بتواطؤ من الدولة الفرنسية المنتدبة وقوى العالم الكبرى، وحين قاد زكي الأرسوزي حركة شعبية مناهضة للانتداب ومطالبة بعودة اللواء السليب إلى حضنه السوري وجد فيه الشاعر الشاب يومها رمزاً ساطعاً لحيوية المثقف الثوري، وانضم دون تردد إلى حزب البعث الذي أسسه الأرسوزي، والذي لم تحل مبادئه التحررية وشعاراته البراقة بادئ الأمر دون تحوله إلى حزب دوغمائي أمني يجثم بثقله المرعب فوق سوريا والعراق، دافعاً بالحياة السياسية في كلا البلدين إلى التلف والاهتراء والتصحر بالكامل .
على أن سليمان العيسى كان معنياً بالأحلام الوردية المبكرة لفكرة الانبعاث التي رافقت حركات الاستقلال والتحرر العربي من الاستعمار، كما من الفقر والجهل والتخلف، وهي الفكرة نفسها التي قصرها أنطون سعادة على بلاد الشام، فيما جعلها البعثيون والقوميون العرب تأخذ مداها الرحب وتتسع حدودها من المحيط إلى الخليج، ومن نجد إلى اليمن، ومن مصر إلى تطوان، وفق ما يقوله النشيد الشهير .
وقد أخذ سليمان العيسى على عاتقه نظم الأحلام القومية وصياغتها في قصائد ومقطوعات حماسية ومثيرة للهمم، فيقول في إحدى قصائده “ثأر العروبة إن لم أسق وحدتها/ شعري، فلا اهتز قيثاري ولا سلما”، ورغم رزوح الأمة تحت وطأة الهزائم والتبعية والتشرذم يرفع الشاعر منسوب إيمانه ببقائه إلى الحدود القصوى، فيعلن بشيء من التحدي: “أمة الفتح لن تموتي وإني/ أتحداك باسمها يا فناء” .
لا يجوز رغم ذلك أن نحاكم سليمان العيسى محاكمة إيديولوجية بحتة، وأن نقع في الفخ ذاته الذي يجب على المبدعين أن يحذروه، فللشاعر أن يتبنى المفاهيم والأفكار التي يريدها شرط أن ينفذ منها إلى ما هو عميق ومغاير وجوهري، وسقوط الإيديولوجيا لا يعني بالضرورة سقوط الفن الذي رافقها أو اعتنقها، وإلا لكان على نيرودا ولوركا وأراغون وإيلوار وغيرهم أن يسقطوا مع سقوط النموذج الايديولوجي الذي اعتنقوه وآمنوا بمبادئه، صحيح أن الكثير من قصائد سليمان العيسى قد وقع تحت سطوة الشعارات والأفكار المسبقة وتغليب الوظيفي على الجمالي، لكن الصحيح أيضاً أن العيسى يمتلك موهبة عالية وشديدة التوقد، وقدرة فائقة على التحكم بالإيقاع وتليينه وترشيقه، وهو ما يبدو جلياً في ديوانه المميز “الإزار الجريح”، وفي كثير من القصائد الوجدانية والعاطفية التي نحت باتجاه التأمل والنشيج الداخلي .
وإذا كانت الأفكار التي اعتنقها العيسى قد سقطت في براثن الفاشيات العسكرية والأمنية العربية، فإن ما انتصر له الشاعر هو براءة الفكرة لا دنس السلطات التي تسلقتها، ورغم أن العيسى لم يذهب في مغامرة الكتابة إلى التخوم التي تسمح بها موهبته العالية، فهو سيظل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية العربية، وأحد جسور العبور من التقليد إلى التجديد .
*** منقول ***
شوقي بزيع
* دار الخليج
ليس سليمان العيسى واحداً من الشعراء العرب الذين يمكن نسيانهم بسهولة أو القفز دون مبالاة فوق نبأ رحيلهم عن هذا العالم، ففي ظل هذا الاسم الشهير ولد ملايين الأطفال العرب وكبروا وشاخوا وهم يرددون قصائده القومية التي تحولت إلى أناشيد، وفي كنف هذا الشاعر التسعيني ترسخت فكرة الارتباط الوثيق بين الشعر وقضايا الأمة التي ينتمي إليها، حتى بدا العيسى على امتداد حياته الطويلة حادي الجماعة ومنشدها ومؤرخ آلامها وأحلامها، والناطق باسم انكساراتها وانتصارتها، تماماً كما كان الأمر في الأزمنة القديمة .
لم يأبه صاحب “الدم والنجوم الخضر” كثيراً لمتغيرات الشعر العربي التي أدركت تجربته وهي ما تزال في ريعانها، فالشاعر الذي ولد قبل بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي بسنوات قليلة، لم يكن معنياً بالانقلاب على التقاليد البنيوية والمفهومية للشعرية العربية، بقدر ما كان معنياً بالوظيفة الاجتماعية والأيديولوجية للشعر، حيث الشاعر هو الداعية والصناجة والمبشر بوحدة الأمة وانبعاثها من الرماد، ومع ذلك فقد كانت “الأسطورة المؤسسة” لشاعرية العيسى تتغذى من الجرح الأصلي الذي لا يندمل، أعني به سلخ لواء الإسكندرون الذي ينتمي إليه الشاعر عن الكيان السوري الأم وضمه إلى تركيا، بتواطؤ من الدولة الفرنسية المنتدبة وقوى العالم الكبرى، وحين قاد زكي الأرسوزي حركة شعبية مناهضة للانتداب ومطالبة بعودة اللواء السليب إلى حضنه السوري وجد فيه الشاعر الشاب يومها رمزاً ساطعاً لحيوية المثقف الثوري، وانضم دون تردد إلى حزب البعث الذي أسسه الأرسوزي، والذي لم تحل مبادئه التحررية وشعاراته البراقة بادئ الأمر دون تحوله إلى حزب دوغمائي أمني يجثم بثقله المرعب فوق سوريا والعراق، دافعاً بالحياة السياسية في كلا البلدين إلى التلف والاهتراء والتصحر بالكامل .
على أن سليمان العيسى كان معنياً بالأحلام الوردية المبكرة لفكرة الانبعاث التي رافقت حركات الاستقلال والتحرر العربي من الاستعمار، كما من الفقر والجهل والتخلف، وهي الفكرة نفسها التي قصرها أنطون سعادة على بلاد الشام، فيما جعلها البعثيون والقوميون العرب تأخذ مداها الرحب وتتسع حدودها من المحيط إلى الخليج، ومن نجد إلى اليمن، ومن مصر إلى تطوان، وفق ما يقوله النشيد الشهير .
وقد أخذ سليمان العيسى على عاتقه نظم الأحلام القومية وصياغتها في قصائد ومقطوعات حماسية ومثيرة للهمم، فيقول في إحدى قصائده “ثأر العروبة إن لم أسق وحدتها/ شعري، فلا اهتز قيثاري ولا سلما”، ورغم رزوح الأمة تحت وطأة الهزائم والتبعية والتشرذم يرفع الشاعر منسوب إيمانه ببقائه إلى الحدود القصوى، فيعلن بشيء من التحدي: “أمة الفتح لن تموتي وإني/ أتحداك باسمها يا فناء” .
لا يجوز رغم ذلك أن نحاكم سليمان العيسى محاكمة إيديولوجية بحتة، وأن نقع في الفخ ذاته الذي يجب على المبدعين أن يحذروه، فللشاعر أن يتبنى المفاهيم والأفكار التي يريدها شرط أن ينفذ منها إلى ما هو عميق ومغاير وجوهري، وسقوط الإيديولوجيا لا يعني بالضرورة سقوط الفن الذي رافقها أو اعتنقها، وإلا لكان على نيرودا ولوركا وأراغون وإيلوار وغيرهم أن يسقطوا مع سقوط النموذج الايديولوجي الذي اعتنقوه وآمنوا بمبادئه، صحيح أن الكثير من قصائد سليمان العيسى قد وقع تحت سطوة الشعارات والأفكار المسبقة وتغليب الوظيفي على الجمالي، لكن الصحيح أيضاً أن العيسى يمتلك موهبة عالية وشديدة التوقد، وقدرة فائقة على التحكم بالإيقاع وتليينه وترشيقه، وهو ما يبدو جلياً في ديوانه المميز “الإزار الجريح”، وفي كثير من القصائد الوجدانية والعاطفية التي نحت باتجاه التأمل والنشيج الداخلي .
وإذا كانت الأفكار التي اعتنقها العيسى قد سقطت في براثن الفاشيات العسكرية والأمنية العربية، فإن ما انتصر له الشاعر هو براءة الفكرة لا دنس السلطات التي تسلقتها، ورغم أن العيسى لم يذهب في مغامرة الكتابة إلى التخوم التي تسمح بها موهبته العالية، فهو سيظل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية العربية، وأحد جسور العبور من التقليد إلى التجديد .
*** منقول ***