تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أشياء محايدة ( خيري منصور )



الرسمي
19-08-2013, 08:30 AM
أشياء محايدة

خيري منصور

* دار الخليج






لم يعد الحياد وقفاً علينا نحن البشر، فالتكنولوجيا بمختلف حقولها محايدة أيضاً رغم أنها تبدو بخلاف ذلك، بدءاً من هذه الورقة التي نكتب عليها فهي بيضاء وعذراء تقبل الخير والشرّ والبهجة والحزن ولا حول لها ولا قوة . . وكذلك شاشة التلفزيون والكمبيوتر فهي تنفذ على الفور ما تقدمه الكاميرات وتتسع للعصفور والغراب معاً، ولمأتم وعرس .

حتى السلاح يبقى محايداً قبل أن يوضع الأصبع على الزناد، فهو صالح للهجوم قدر ما هو صالح للدفاع، وهناك عبارة بسيطة لكنها بالغة الكثافة والدلالة تختصر هذا الحياد هي السلاح ذو الحدين .

لهذا فإن الخطأ الشائع هو قياس التقدم بامتلاك أدواته، بمعزل عن وظيفتها والبوصلة التي تحدد وجهتها وهذا ما دفع علماء ومفكرين إلى رفض مفهوم العلم لأجل العلم فقط، تماماً كما رُفض مفهوم الفن للفن فقط، لأن نزع البعد الأخلاقي عن أي نشاط بشري يحوّله من نِعْمة إلى نِقْمة، فالسلاح المدمر الذي تنتحر به البشرية هو علم منزوع منه الدسم الأخلاقي لهذا ما من أحد يشيد بالمعمار الفني لسجن يمتلئ بالزنازين أو بأدوات تعذيب حديثة يُسَخّر العلم من أجل تطويرها .

وفي موروثنا المعرفي والديني تفريق حاسم بين علم يُنْتَفَعُ به وآخر لا معنى له أو هدف، ولو تذكرنا فقط ما أحدثته القنابل الذرية في هيروشيما وناجازاكي لاتّضح لنا الفارق الجوهري والحاسم بين علم يُنتفع به وآخر يُنْتَحَرُ به .

فما من عالم أو شاعر أو فيلسوف أشاد بذلك السلاح المُبيد وانْصَرَف الانتباه كله إلى الضحايا من بشر وشجر وحجر! وحين يَقَع المنجز العلمي في يدٍ أُمِية يتحول على الفور إلى سلاح مُضاد، وقد جَرّبنا كيف تحولت الهواتف إلى وسيلة لتدمير الوقت وهي التي اخترعت لاختزاله تماماً كما يستخدم الانترنت الآن لتحديث النميمة وتبادل الاتهامات وأحياناً النيْل من سمعة وكرامة الآخرين!

وكان كولون ويلسون قد كتب ذات يوم عن القلق الذي ينتاب الكاتب وهو يشرع في كتابة أول كلمة على ورقة محايدة بيضاء لكنه ما أن نَظَر من النافذة حتى رأى العاصفة تقتلع شجرة في الشارع فأحس كما قال بالحسد إزاء الطبيعة لأن الإنسان عابر وهي مُقيمة، لكن عبارة شكسبير الشهيرة التي قال فيها إن الطبيعة هي المعلّم الأول لم تكن بعيدة عن مفهوم الحياد، فقليل من النار يدفئ وكثير منها يحرق وكذلك الماء الذي قليله يروي وكثيره يغرق، وحين تَدخّل الإنسان في الطبيعة أخَلّ توازنها، لأن البحار لم تُخْلق للقَرْصنة، والسماء لم تخلق للطائرات المدمرة .

ما أكثر الأشياء المحايدة من حولنا لكن فائض العدوان وشهوة السّطو أفقدتها حيادها وعُذرّيتها معاً .




*** منقول ***