تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الفرار المستحيل ( خيري منصور)



الرسمي
29-08-2013, 11:00 PM
الفرار المستحيل

خيري منصور

* دار الخليج





لم يعد الفرار ممكناً، فالواقع الآن يضغط على أنوفنا جميعاً، ولا يسلم من الوباء إذا ما استشرى حتى هؤلاء الذين يغطون وجوههم بالكمامات أو يقيمون في منازل لا يغادرونها، لأن الفيروس الدموي عابر للحدود والبيوت والثياب أيضاً ورشيق في التأقلم .

في إحدى رواياته التي كتبها أثناء عمله مراسلاً حربياً لإحدى الصحف خلال الحرب العالمية الثانية حاول ارنست همنغواي أن ينجو بأحد أبطاله من وباء الحرب فاصطحب ممرضة أحبها وهربا إلى جبال الألب بكل ما يرمز إليه الثلج من براءة .

لكن الكاتب لم يستطع مواصلة الفرار، وحين حملت الممرضة كان لا بد أن تموت في المخاض، رغم أن المؤلف لا يريد ذلك لكن الواقع يفرضه، وكأن الحب والانجاب ممنوعان في زمن الحرب، ولم يكن همنغواي المؤلف الوحيد الذي قتل بطله رغماً عنه، فقد فعلها كازنتزاكي عندما قتل زوربا وبكى ماركيز ساعتين وهو يودع أحد أبطاله قبل أن يضطر لقتله .

ومن يظنون الآن أن بمقدورهم التحليق عالياً خارج جاذبية الواقع الملتهب والواقع الدموي لن يستطيعوا ذلك، فهذه اشتباكات معظم ضحاياها من الابرياء وممن لا ناقة لهم ولا بعير في القافلة كلها .

لم يعد الحزن موضعياً في أي مكان من عالمنا، فالألم يتمدد ليشمل الجغرافيا بأسرها ما دامت العدوى قابلة للانتقال على هذا النحو الذي لا سبيل إلى إيقافه أو الحد منه، وما يقال عن أن وسائل الاتصال والتواصل التي حولت كوكبنا إلى قرية هي ما جعلت البعيد قريباً والمستحيل ممكناً، يتجاهل شيئاً مهماً هو ما يسمى البوصلة الأخلاقية للإنسان المعاصر، فهو إذ يتضامن مع الضحية حتى لو لم تكن من قومه أو سياقه التاريخي والجغرافي إنما يسارع إلى الدفاع المبكر والاستباقي عن نفسه، لأن الجميع يقفون في طابور طويل، ولكل ذبح أوان .

هذه البوصلة الأخلاقية قد تصاب بالعطب لبعض الوقت، لكن سرعان ما يدرك من أخطأوا الطريق أو ضلوا الجهات أنهم سوف يدفعون الثمن أيضاً، فمن يصمت على الظلم ستكون له حصة منه ولو بعد حين .

وما يحرك شعوب العالم بأعداد تصل إلى الملايين كما حدث في الاحتجاجات على الحرب ضد العراق أو انتصاراً للضحية الفلسطينية ليس فقط بفعل التواصل بل بفضل هذه البوصلة الأخلاقية، وكان أول استخدام لهذا المصطلح المركب في فرنسا أثناء الاحتلال النازي لها، ففي تلك الأيام تصور أهم مثقفي فرنسا أن الاحتلال والانتهاك إذا وقع على قرية أو حتى على فرد واحد فإنه يشمل البشرية كلها .

لهذا لم يعد الفرار ممكناً .



*** منقول ***