تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ماذا بعد صناعة "العدو رقم واحد" للشعب ؟



حواليكم
26-10-2013, 05:01 PM
بعد أن رجع طلابي إلى المدرسة بعد الإضراب شعرت كما لو أنهم ينظرون إليّ بميكروسكوبات دقيقة تريد أن تنتشل أدنى تفصيل صغير من وجهي، كانت هذه العيون الصغيرة مستميتة في البحث في تضاريس وجهي عما يعتقدونه ذنوبا كبيرة ارتكبتها طوال أسبوعيّ الإضراب، تلك الذنوب التي جاءت بين ليلة وضحاها أُلبِسَتْ المعلم كرها وعمدا، شعرت كما لو أنني أصبحت مجرما أمام شرطة مباحث جنائية تحاول أن تنتزع من روحي أقل إشارة للبحث عن معلومة أُدان بها. أمام هذا الضغط غير المتوقع جمّدت وجهي، جعلته يبدو كصخرة كونكريتية صلبة لأمنع هذا التجسس المعلوماتي الخطير، لكني سمحت لعينيّ أن ينسابا كينبوعا حب ولطافة فوق تلك الرغبة الجائعة التي تشي بأن ورائها قد يكون شيئا أكبر، ربما أننا أصبحنا إلى حد بعيد العدو رقم واحد للشعب والمجتمع.
ما كان لأزهار الشر أن تنبت فوق أجساد البراءة.
إن فكرة أن المعلم أصبح شريرا وربما عدوا للمجتمع ما كان لها أن تنبت هكذا فجأة في عقول أبنائنا الطلاب لولا أن هناك اشتغالا وانشغالا عليها من قبل المجتمع، جاء الإضراب مناسبة ولحظة انبثاق واستدعاء لكل الذكريات الأليمة التي علقت بذاكرة أولياء الأمور يوما عن المعلم، وهي للأسف قد تكون ذكريات سلبية وجارحة للمعلم وليست تنويرا لدوره وشخصه. يحدث استدعاء الذكريات هذا ويا للحزن والأبناء يتشربون مثل تلك الحوارات التي تَكْفُرْ بالمعلم وتجحد دوره واستنارته وتعتّم خط الإنارة الذي يضئ طريق المستقبل للمجتمع، لقد كان درس الجغرافيا "التعرية والنحت" لشخصية المعلم ربما هو الدرس الوحيد الذي يبدو أن بعض أفراد المجتمع استفاد منه استفادة كبيرة في هذه اللحظات من طوال سنين تواجدهم في المدرسة. إنها لحظة انفجار اللامعقول والغريب والانفعالي في حياة المجتمع، هل هي لحظة انتقام لا مسئوله ؟
إن "صندوق باندورا" انفتح على مصاريعه كلها، صندوق الشر الذي خبأ المجتمع والوزارة فيه كل حقائقهم وآرائهم السلبية عن المعلم انفجر مرة واحدة معلنا نتائج وحقائق مرة، أظهرت كم أن المعلم ساذجا وغريبا في مجتمعه وأمام وزارته وربما حتى محتقرا ليس له نصيب من إدعاءات التقدير والاهتمام التي كانت تنسكب عليه ليل نهار من الطرفين، كما أظهرت مدى زيف المجتمع والوزارة ونفاقهما اللانهائي.
إنها لحظة من لحظات التحالف الصامت والغريب بين الوزارة والمجتمع ضد المعلم؛ فآخر مرة شوهد فيها هذا الشعور النبيل من جانب المجتمع اتجاه الحكومة كان في إعصار جونو، حينما اختفت للحظات كل الهواجس والمخاوف والقلق والوسوسة من النفوس، وتركز المجتمع كله شعبا وحكومة في ماهية واحدة، ماهية الإنسان وقدرته على الصمود؛ أما أن يتجلى هذا التحالف مرة أخرى في إضراب المعلمين؛ فهذا حقا يدعو للكثير جدا من التأمل وكثيراً أكثر من الحزن.
إن حقيقة أن الوزارة والمديريات خاوية على عروشها لا تملك من أمرها شيئا، قد ظهر جليا ومرئيا للجميع، لم يكن في مقدورها سوى الصمت، ذلك الصمت المخجل الذي يخبرنا أنهم صمتوا في غير وقتهم المناسب، فهم طوال أكثر من أربعين عاما يتكلمون ويتكلمون ولا يستطيع أحد إغلاق أفواههم، لكنهم في وقت تطلعنا إلى أحد منهم ليتكلم لم نرى سوى صمت مطبق؛ أخيرا صمتوا ويا لصمتهم المخزي والمؤلم؛ الآن نرغب أن نسمع أصواتكم، فقبل ذلك نراكم تنقضون علينا في مدارسنا كالأشاوس والمغاوير بسفسطائيات غريبة ما سمعنا بها أبدا في الأولين والآخرين؛ أين أنتم الآن.
إنهم يدركون حجهم الآن، حجمهم الصغير وأخطائهم الكبرى؛ لكن هل من تغيير. إن الكتلة النفسية الثقيلة الغريبة التي تتلبسنا وتثقل صدورنا قبل كل زيارة للجنة ما أو مسئول أصبحت الآن من الماضي البعيد.
إن مشاركة الإعلام في صناعة المعلم الشرير عندما لم يفصح عن الحقائق وعندما لم يسمي الأشياء بأسمائها الواضحة، بالإضافة إلى فعل التحريف والفبركة والتضليل كلها جميعا رسمت لوحة بالخطوط السوداء والفرشاة، لوحة قبيحة المنظر للمعلم وعلقتها أمام عيني كل فرد من أفراد المجتمع لمشاهدتها باستمرار.
وأمام طغيان الإخطبوط الواتسبي العملاق التي تمده ذاكرة غير منظمة ومفبركة قطعا، تمكنا جميعا من صناعة هذا "المعلم الدراكولا" المرعب، الوزارة ومديرياتها، وكل أجهزة الدولة المختلفة، والإعلام، والمجتمع، والمعلمين أنفسهم، كلهم ساهموا في هذه الفوضى الخلاقة والغريبة؛ والسؤال المصيري الآن، ماذا بعد كل هذا ؟ لقد التقيت بالكثير من المعلمين، وصادفت الكثير منهم، وكما يبدو من الجو العام هناك حالة إحباط هائلة تجتاح المعلمين، وحالة هبوط اضطراري للروح؛ فالكثير ليس لديهم الرغبة في التدريس، والكثير منهم يدخلون الصفوف هكذا بلا روح، إنهم في حالة صدمة. إنها صفحة سوداء ستؤدي حتما إلى حركة انتقالات واسعة من المعلمين من قطاع التعليم إلى قطاعات أخرى، ستهاجر تلك العقليات ذات الكفاءة العالية التي لم تجد الاهتمام والتشجيع. وكما يبدو سيصبح المسئولون في المديريات والوزارة بلا عمل وفي إجازة طويلة مدفوعة الأجر، والمعلمين لن يتعاملوا معهم؛ لأنهم أعلنوا إفلاسهم سوى من عمل وحيد طارئ وهو التحقيق واستدعاء المعلمين. ليقل لي أحد الآن من المستفيد، يعتقد المسئولون وأفراد المجتمع أنهم ربحوا فعلا هذه الحرب على جثث المعلمين، قد يكون هذا الكلام صحيحا، لكن بأي ثمن !
المعلم اكتشف الحقيقة المرة؛ لقد أصبح المعلم خطرا الآن، ويشعر أنه بلا قيمة، وقد أهين إهانة كبرى فأي كرامة وأخلاقيات ومبادئ نبحث بعدها ونعلمها لأطفالنا وطلابنا في المدارس.
والعاقل في هذا العالم من يقرأ هذه المرحلة الدقيقة من عمر وطننا بكثير من التعقل والتأمل، وهذه المرحلة تحتاج إلى إعادة النظر في منظومة التعليم والسياسات التربوية وطرائق التعامل والتفكير في إصلاح جدي للمناهج وحتى إعادة نظر في المسئولين الذين أفسدوا التعليم في وطننا.


فمن لديه القدرة على إعادة الروح الجميلة المغردة إلى عشها.



*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) .. (/~moeoman/vb/showthread.php?t=532030&goto=newpost)