أولاً: لمحة تاريخية عن مفهوم المواطنة:اقترن مفهوم المواطنة أو ما يدل عليه من مصطلحات عبر التاريخ بإقرار المساواة للبعض أو للكثرة من المواطنين, ويكون التعبير عن إقرار مبدأ المواطنة بقبول حق المشاركة الحرة للأفراد المتساوين، وقد كان التعبيرعن إقرار مبدأ المواطنة مرتبطا دائما بحق ممارسة أحد أبعاد المشاركة، أو ممارسة كل أبعادها بشكل جزئي أو كلي؛ ولقد مر مفهوم المواطنة عبر التاريخ بمحطات تاريخية نمت عبرها حتى وصل إلى حقيقته الجوهرية (علي ليلة, 2007, 85).1_ مفهوم المواطنة في العصور القديمة: اتسعت المواطنة في عهد الرومان لتشمل سكان المناطق التابعة لهم، وذلك لأن الرومان استخدموا المواطنة كمكافأة لأولئك الذين دعموا روما في معاركها وحققوا الانتصارات لها, ولذلك نظر الرومان للمواطنة على أنها مكانة قانونية (Legal Statate) لهم ولغيرهم؛ ولكنها كانت منقوصة، إذ تقتصر فالمشاركة السياسية على المواطنين الرومان (المعمري, 2008, 19).ولقد كان المصريون القدماء يعتبرون أنفسهم وطنين أصلا نشأوا وولدوا في بلادهم, وكانوا شعبا معتزا بنفسه؛ كما قسم المصريون العالم إلى الأرض السوداء (وادي النيل ) الوطن، والأرض الحمراء ( الصحراء) الأرض الأجنبية, واعتبروا أن وادي النيل وطنهم، أما ما يحيط به من الصحراء فهي أرض أجنبية ( الشندودي, 2007, 18).ولقد كان المعلمون واالمثقفون في مصر يتناقلون تاريخهم القومي بسبل شتى، منها لوح هندسي صغير يرجع تاريخه إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، ويتضمن موضوعا تعليميا درس صاحبه مرحلة من مراحل كفاح أجداده ضد الهكسوس (بهاء الدين, 2000، 39). ومن هنا فإن تاريخ مبدأ المواطنة هو تاريخ سعي الإنسان من أجل الانصاف والعدل والمساواة, وقد كان ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة أو ما يقاربه من معاني في الأدبيات بزمن بعيد، لذلك ناضل الإنسان من أجل إعادة الاعتراف بكيانه وبحقه ومشاركته في اتخاذ القرارات على الدوام, وتصاعد ذلك النضال، وأحذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مرورا بحضارة سومر وآشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقين والكنعانين والإغريق والرومان (الدجاني, 2000, 95). ومن الملاحظ أن الحضارات القديمة والأديان والشرائع التي انبثقت عنها والتي جاءت منذ بداية التاريخ المكتوب قد ساهمت في وضع أساس للمساواة أعلى من إرادة الملوك وحكومات الإمبراطوريات لتقيم أسس الانصاف والعدل والمساواة في الأرض، فاتحة بذلك آفاقا رحبة لسعي الإنسان إلى تأكيد فطرته وإثبات تدينه وحقه باعتباره إنسانا قبل كل شئ, الأمر الذي فتح المجال للفكر السياسي الإغريقي ومن بعده الفكر الروماني السياسي والقانوني على وجه الخصوص , ليضع كل منها أسس مفهومه للمواطنة والحكم الجمهوري _الذي كان يعني حتى قيام الثورة الأمريكية في آواخر القرن الثامن عشر الحكم المقيد في مقابلة الحكم المطلق , وليس الحكم الجمهوري كما نفهمه اليوم_، وقد أكد كل من الفكر الإغريقي والروماني في بعض مراحل كل منهما على ضرورة المنافسة من أجل تقلد المناصب العليا، وأهمية إرساء أسس مناقشة السياسة العامة باعتبار ذلك شيئا قيما ومطلوبا في حد ذاته.1- مفهوم المواطنة عند العرب والمسلمين الأوائل:لم تكن فكرة المواطنة دخيلة على العرب بالرغم من اضطراب الحياة القبلية وُبعدها عن حياة المجتمعات المنظمة، إذ إن روابط الدم والتقاليد جعلت أفراد القبيلة الواحدة يعملون لتحقيق أهداف مشتركة، كما كان للفرد حقوق وعليه واجبات؛ لذلك يكثر في الأدب الجاهلي الفخر بالأنساب والشجاعة والكرم، حتى غإلى الأفراد في ولائهم لقبيلتهم باعتبارهم أبناء بررة ومواطنين صالحين.وعندما جاء الإسلام ارتفعت القيم عند العرب وغيرهم من المسلمين، وظهر مجتمع جديد منظم علّم الإنسانية معنى الأخوة والمحبة والمساواة في الحقوق والواجبات والديمقراطية؛ فانعدمت الفوارق وذابت الطبقات, وأصبح الجميع سواسية، وهو ما تشير إليه الآيات الكريمة التالية:"يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (سورة الحجرات: الآية 13) ؛ وقوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام"(سورة النساء: الآية1). (سناء, 2011, 32)ففي عهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- تم شكيل مجتمع المدينة المنورة كنموذج أمثل لمجتمع التعاقد على أساس الاشتراك في حقوق المواطنة وواجباتها, وبادر الرسول الكريم بإنشاء (دستور) ينظم العلاقات بين مواطني المدينة رغم اختلافهم في العرق والجنس، وينظم حياتهم على أسس راسخة قائمة على المحبة والتعاون والإخاء؛ فنظم بين كل هؤلاء بما عرف في كتب السيرة بالصحيفة، وما نطلق عليه اليوم (الدستور)، فأصبحوا أمة واحدة بالمعنى السياسي المعاصر (ناصر, 2002, 47).2- المواطنة في العصر الحديث:اختلف مفهوم المواطنة (Citizenship)من دولة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، كما اختلف مفهوم المواطنة بحسب البرامج والمناهج المعدة لتنمية قيمها وخصائصها، وذلك باختلاف فلسفة تلك الدول وحاجاتها وتوقعاتها، ففي بعض الدول يتم تعليم المواطنة منذ الحضانة مرورا بمراحل التعليم المختلفة (الشندودي, 2007، 20).لقد ارتبطت المواطنة في العصر الحديث بالدول القومية التي تمثل المكان الجغرافي الذي تمارس فيه الحقوق والواجبات؛ فتذكر موسوعة الكتاب الدولي أن المواطنة (Citizenship): عضوية كاملة في دولة أو في بعض وحدات الحكم والجنسية، وتؤكد أن للمواطنين بعض الحقوق كحق التصويت وحق تولي المناصب العامة، وكذلك عليهم بعض الواجبات كواجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم (الكواري, 2004، 31).ويعرفها سيد (2001, 3): بأنها مجموعة من العلاقات التي تتم بين الفرد والمجتمع أو الدولة، وتتضمن هذه العلاقات الحقوق والواجبات.كما يعرفها حماد (2001, 9): بأنها صفة الفرد الذي يعرف حقوقه ومسؤولياته تجاه المجتمع الذي يعيش فيه, وأن يشارك بفاعلية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات التي تواجه المجتمع، والتعاون والعمل الجماعي مع الآخرين، مع نبذ العنف والتطرف في التعبير عن الرأي، وأن يكون قادرا على جمع المعلومات المرتبطة بشؤون المجتمع واستخدامها.ويشير معبد (2008, 363) إلى أن المواطنة سمة الفرد الذي يعرف ماله من حقوق وما عليه من مسؤوليات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه, وأن يتعاون مع الآخرين من أفراد مجتمعه، وتطوره ورقيه، ورفض الأعمال الضارة بالمجتمع, ولديه -أيضا- القدرة على التفكير السليم الواعي في القضايا المحيطة به، ويؤمن بأن الدولة تحقق العدالة والمساواة بين أفرادها دون تفرقة بينهم بسبب الدين أو اللون أو الجنس.وفي تعريف آخر للمواطنة (Citizenship) يعرفها علي ليلة (87,2007) بأنها: المكانة التي تيسر الحصول على الحقوق الأهلية والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية .ويرى بالبار (Balibar) أن ممارسة المواطنة لا يمكن فصلها عن الانتماء لأمة سواء كان ذلك من خلال المنشأ أم من خلال التجنيس, كما يرى كليربر(Kerbar) بأنها علاقة تبادلية بين المواطن والدولة بعدما كانت علاقة التبعية في العصور الوسطى (المعمري, 2008، 19).وتعرفها آمال (2009, 121) بأنها: مجموعة القيم التي تؤثر في شخصية الطالب فتجعله إيجابيا ملتزما أخلاقيا في انتمائه لوطنه بوعي سياسي وحرية ومسؤولية، وقدرة على قبول الآخر والحوار معه وبمشاركة فعالة لتحقيق الأمن الداخلي والسلام العالمي.ويعرفها ماكدونالدMacdonald ,2003) )بأنها: مجموعة من الممارسات الحية المتحركة التي تشعل الممارسات السياسية والمدنية والقانونية والثقافية والتربوية, والتي تكونت عبر الوقت نتيجة للحركات الاجتماعية والسياسية والقوى الفكرية.بينما يعرفها النجدي (2001، 10) بأنها: صفة الفرد الذي يعرف حقوقه ومسؤولياته تجاه المجتمع الذي يعيش فيه, وأن يشارك بفاعلية في اتخاذ القرارات وحل المشكلات التي تواجه المجتمع, والتعاون والعمل الجماعي مع الآخرين مع نبذ العنف والتطرف في التعبير عن الرأي, وأن يكون قادرا على جمع المعلومات المرتبطة بشؤون المجتمع واستخدامها, ولديه القدرة على التفكير الناقد, وأن تكفل الدولة تحقيق العدالة والمساواة بين جميع الأفراد دون تفرقة بينهم بسبب اللون والجنس أو العقيدة.ويعرفها مجدي شعبان(2008) بأنها: تطوير المواطن الحضاري للشخصية المتوازنة الذي يسهم بشكل فاعل في بناء الوطن ويدافع عنه, ويمارس حقوقه وواجباته التي كفلها له الدستور أو القانون, ويعمل على تلبية حاجاته الأساسية وحاجات مجتمعه ملتزماً بقواعد المجتمع وقوانينه.ويعرفها الموافي(2008) بأنها: منظومة من القيم والمشاعر والانتماءات تتضمن معنى المساواة, وتحترم مفهوم التعددية, وتسقط الفوارق المتصلة بالدين أو الجنس أو الأصل بين البشر بلا استثناء. ويعرف الباحث المواطنة بأنها: صفة المواطن الذي يعرف من خلالها ما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه بما يحقق وحدة المجتمع واستقراره، ويمتلك العديد من المهارات والكفايات التي تجعله قادرا على احترام وتطوير نفسه وأسرته، ويشارك بفاعلية في خدمة وطنه.من خلال التعريفات السابقة نستخلص أن مفهوم المواطنة يستوعب وجود علاقة بين الدولة والمواطن، وعلى ذلك يشير الموافي (2008، 14) إلى ثلاثة جوانب من العلاقة بين المواطن والدولة:- الجانب الأول: علاقة قانونية: وهي علاقة الجنسية، أي علاقة بين الفرد والدولة تسبغ الأخيرة بمقتضاها جنسيتها على عدد من الأفراد وفقا لقانونها.- الجانب الثاني: علاقة سياسية: تشكل بموجبها المواطنة رباطا سياسيا بين المواطن والدولة، وفيها يتمتع المواطنون بمجموعة من الحقوق، وتحملهم لمجموعة من الالتزامات؛ فالمواطنون فقط هم من يحق لهم ممارسة الحقوق السياسية بما فيها الترشيح والانتخاب وتكوين الأحزاب.- الجانب الثالث: علاقة عضوية وعاطفية تجاه الوطن: ورموزه مفعمة بالحب والشعور بالولاء والانتماء تجاه الوطن ولغته وتاريخه وثقافته.فالعلاقة بين الدولة والمواطن علاقة قوية، ولا يمكن لأي فرد أن يكون مواطنا إلا بالانتماء لدولة _جماعة سياسية_، والحقوق التي يتمتع بها المواطنون في بلدهم لا يتمتعون بها خارجه، وذلك لأن الدول غير معنية بالوفاء بتعهداتها إلا لمواطنيها, كما أنها تقوم على الكفاءة الاجتماعية والسياسية للفرد، إذ تستلزم المواطنة الفاعلة توافر صفات أساسية في المواطن تجعل منه شخصية مؤثرة في مجتمعه قادرا على حل مشكلاته والتعامل مع القضايا والتحديات العالمية؛ كما أنها قد تكون محلية مختصة ببلد معين، وقد تكون عالمية، وتتطلب حقوقا من قبل الدولة, وواجبات من قبل المواطن؛ فهي سلوك عملي يعبر الفرد من خلاله عما يحمله من مشاعر وقيم تجاه وطنه، متمثلة في حب الوطن والولاء له والسعي للدفاع عنه. (Alberta Educarion, 2005, p.44)
من رسالتي الماجستير - سالم بن سعيد بن حمد المقرشي
مدرسة عبدالله بن عمر للتعليم الأساسي
ت:99223136
*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..
المفضلات