وهو يرتشف من قهوته ، مسترخياً على أحد المقاعد في أحد المقاهي كعادته وهو ينتظر شخصاً ، كانت دقات عقارب ساعته تزيد من انتظاره وكأن وقع القنبلة بأرضه مرتين ولم تُهلكه إلا الوقعة الثالثة !
أيُعقل أن يكون قد نسيَ هكذا موعدنا ، والذي كان مميزاً طوال سنين بعلامة حمراء على أجندة حياتنا ، وإن كان أن حدث هذا فهو بلا شك ما عاد يذكر حتى اسمه ، فاسمه موجود أيضاً في تلك الأجندة .
لأمنحه عذراً ، وأنا ما كنتُ أفعل منذ ساعات سواء خلق الأعذار وابتداعها ، ونظرات ذلك النادل تلتهمني ، فربما كان يظن أنني من هؤلاء القوم الذين ما إن يحطوا في مكان إلا وتركوه أنقاضاً وركاماً ، بالرغم أنني أمضيتُ ما يقارب ساعة أمام المرآة لأمنح نفسي تأكيداً على ملائمة هندامي ولكن يبدو أنني زدتُ الأمر سوءاً !

ساعته دائماً تكون معطلة ، فلربما تكون اليوم متقدمة بأميال عن ساعتي وهو ما جعله يفوت أن يعيش يومه هذا !
هذا الشيخ العجوز الجالس هناك لم يرحم نفسه ولم يمنحها القليل من العطلة التي يحتاجها وأخذ يهز عكازه قادماً إلى هنا ليشبع فاه وعينيه وقد كان فيما مضى زاهداً قنوعاً ، عمية عيناه عما يدور في مستواها ، حاد البصر في ما يعلوها ، أذكره جيداً لطالما كنتُ ألمحه في صغري وكان أكثر ما يُشدني إليه هو ذلك الصمت المطبق الذي يُقبل معه أينما حلّ رغماً من ركاكة حديثه وسوقية ألفاظه .

وفوق الانتظار انتظار آخر ! وأرى انسحاب دقائق الوقت سريعاً آخذة خلفها وفود القادمين هنا ، حتى ما عدتُ أبُصر غير النادل يرتب المكان وينظفه ، وهو يُلهبني بنظراته طارداً إياي وكأنني قط شريد التجأ من المطر في منزل قناصه !
وقبل أن ينطق بما باحت به عيناه ، أتى أخيراً من أنتظره وألقى بنفسه إلى الداخل سريعا وألقى فوق الطاولة قصاصة ورق وغادر ، ما اتفقنا هكذا ونهضتُ أصرخ فيه أن تمهل وامكث ولكن قدماه كانت أسرع من أن تسمع أذناه ما قلته ، لحظة أكان هو أم شخص آخر ، طوله ، تقاسيم وجهه وقبعته التي تغطي جزء من جبهته ، كان هو وإن لم يكن هو سأجزم يقيناً أنه هو !

تصرف غير مقبول البتة سأريه عقابي على تجاهله الوقت وسرقته لثواني ليقدُم بهذه الصورة الدرامية ويُغادر ، وسأنبهه أن أداءه رغم كل شيء كان رديئاً .
حمحمة خلفي فالتفتُ على إثرها ، فرأيتُ غريمي يقول لي ساخطاً وكأنه أعياه عدم فهمي لتلميحاته وإشاراته التي كان يُلقيها عليّ " سيدي ، سنغلق بعد قليل " وقدم لي فاتورة الحساب ، فدفعتُ له وزدته قليلا لعله يرضى .
وأنا أغادر وقد نسيتُ قصاصتي ، أخرج كل ما في جوفه من صدى وألقاءه في أذني طنيناً مزعجاً زاعماً في ذلك الصراخ " سيدي لقد نسيتَ هذه " شكرته ومضيتُ وأنا أحاول اخراج صوته الأجش من أذني ، كان يكفي إن نداني ولكن لا أدري ما حال هذا الرجل معي .

ماذا ترى كتبت لتُكمل تلك الدراما المهترئة ، " توفيتُ اليوم ، فلتقرأ عليّ السلام ولك مني السلام " هذا أسخف شيء شهدته اليوم ، يبدو أنك يا أخي ما زلت تُمارس ألعابك الصبيانية برغم أنك جاوزت عقدك الثالث ، تموت الحكمة فيك مع ازدهار عمران أرضك ! هذه إحدى المفارقات العجيبة التي كنتَ تملكها !


*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..