-
سُكّر اللغة
*جريدة الخليج
محمد أبو عرب:
ليس غريباً أن نسقط في مذاق القصيدة مثلما نسقط في مذاق الحلوى، فالأدب بصورة عامة أنتج من اللغة ما يشتهي حتى باتت الكلمات قابلة للأكل والتذوق، فكيف لا نشعر بحلاوة المفردة في قصيدة الراحل الكبير محمود درويش «ستبقى، بعيني ولحمي، ملاك/ وتبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك/ نسيمك عنبر/ و أرضك سكر».
وكيف لا نقتبس من قصيدة شاعر المرأة والثورة نزار قباني سيرة الصباح في قصيدته، وهو القائل: «إذا مرّ يومٌ. ولم أتذكّرْ/ به أن أقولَ: صباحُكِ سُكّرْ.../ ورحتُ أخطّ كطفلٍ صغير/ كلاماً غريباً على وجه دفترْ/ فلا تَضْجري من ذهولي وصمتي/ ولا تحسبي أنّ شيئاً تغيّرْ/ فحين أنا. لا أقولُ: أحبّ../ فمعناهُ أني أحبّكِ أكثرْ».
ليست اللغة كما يشتهي الاصطلاح الوقوف عندها، فالأدب والشعر أنتج منها ما هو أبعد، وما لا يمكن وصفه، والوصول بالخيال إليه، إذ يكفي التساؤل ولو لمرة واحدة، كيف تحوّل السكّر من قاموسه المرتبط بالمشروبات والمأكولات، إلى تكثيف بليغ لاختزال الغزل، ووصف الحلاوة؟
لا تحتاج الإجابة إلى جهد عسير للوقوف عند طاقة اللغة، ومهارة الأدب والشعر، فاللغة لم تترك يوماً مهمتها التاريخية القائمة على تحويل الحياة بكل موجوداتها المادية والوجدانية إلى مفردات وعبارات قادرة على تشكيل حياة جديدة قوامها المفردة والتركيب اللغوي، وهي مهمة موغلة في التجريد، وبالغة في الحذر، فكيف يتحوّل النهر بكل ما يهدر فيه من ماء وما يفيض فيه من حصى إلى ثلاثة حروف متتابعة «ن، ه، ر»، وكيف حتى يصبح الكون ثلاثة حروف وحسب.
لذلك تبدو سيرة السكّر في الأدب والشعر أقرب على الفهم من سواها، فما أن استساغ الإنسان عبر مشواره الحضاري الطويل مذاق السكّر وتعرف إلى مفهوم الحلاوة، حتى صار هذا الشعور المرافق لتذوق السكّر، شعوراً يدعو إلى الفرح والمتعة، عمل الشعر على تحويل السكّر من حضوره كمذاق إلى وصف للجميل والحلو.
كان يمكن لنزار قباني أن يقول صباحك جميل، أو نهارك رائع، إلا أن الوصول إلى الموصوف باعتباره قابلاً للتذوق كان أبلغ في قوله: «صباحك سكّر»، وكذلك فعل درويش في «أرضك سكّر»، فأي حلاوة للأرض، وأي اشتهاء لمذاقها سيكون أقرب من السكّر في أذهاننا.
يكمن سر المفردة في مذاقها، فوصف الحلاوة بمعناها الذي يشير للجمال، انسحب كذلك على السكاكر، فكما فعل الشعر في العذوبة وفتح فيها سيرة الماء، فعل مع الحلاوة تجاه السكر، إذ حتى التراث الشعبي يروي سيرة طويلة لوصف الحلاوة -الجمال- بالسكر، وإلا كيف للأهازيج الفلسطينية أن تقول: «تقول البيضا واحنا النيشان قوالب سكّر بها الدكان».
إنها اللغة بكامل عبقريتها، وإنه الشعر حين تتقطّر الحكايات في إناء الحياة، وإنها السكّر بكامل حلاوته.
*** منقول ***
المفضلات