قصة بعنوان :"نَمْـــلٌ نِسَائِـــيْ ..!!"


كن وكأنهن وسط اجتماعٍ لنملٍ نسائي .. يحتسين فنجان القهوة الذي ما إن ينتهي حتى يعقبه فنجان آخر رقم (عشرين) أو ربما يزيد .. يختفي سريعاً ما بين رشفةِ شفاههن التي لا تعي من الحراك أو الحديث أبداً ..

يملأن معدات بطونهن من ما لذَّ وطاب من مأكولاتٍ صفراء وحمراء وزرقاء وغيرها من ألوان القوس قزح التي كانت على صحون النسوة التي أحضرنها لمجلسهن النسوي ذاك ..

تصرخ هي متوسطة حديث ألسنتهن التي غدت أشبه لمحركات السيارات التي تكاد لا تدل للتعب طريقاً ..

"حمدان ولد عوَّاش طلع ما ميت موتت عينه ، طلع مسحور ، شفته أمس الظهر وأنا رايحه عند خدَّوج بو تبيع اللواسي ، أعرفه تراني زين ما زين ، فروة راسه ما فيها شعر واجد ، ويده اليمين ما يقدر يحركها ..!!" هكذا كان وصف حلُّوم للمرحوم حمدان الذي كان قد توفى قبل ثلاثِ أعوام ..

"تو انتيه مو هذا بو جالسه تقوليه حلُّوم ؟؟ خلّي عنك هذي السوالف وهذي الهرجة والرجال ميّت موتت ربه .." .. علَّقت المعلمة شريفة على حديث حلَّوم..

ترد حلُّوم : " عجب مو بو شايفتنه عيني ؟؟ كان جني واموه ؟؟ هاه ... ردّي !!"

"أعوذ بالله من لسانك اللي متبرّي منك" .. قالت سليمة .. المرأة الحكيمة ..
"يا حرمة .. عقلي ولو مرة وحدة واستغفري ربك بدل هالسوالف .."

"أبوي تعبنا منها هالحرمة وكلامك بيروح كله فالفاضي .." علَّقت سلمى العجوز حديثها مؤازرة لكلمات المعلمة شريفة وسليمة الحكيمة ..

"السلام عليكم حريم .. كيف حالكن ؟؟ ومو أخباركن ؟؟ ومو أخبار زواجكن ؟؟ وولادكن ؟؟ وبناتكن ؟؟ ومو حالهم الصغيرين ؟؟ وصغيرين بناتكن ؟؟ وجاراتكن ؟؟؟ و ......."

تقاطعها فطُّوم : "حشى .. هذا ما لسان بو فيش .. تقول بالعه عشرين راديو" ..

"كفاش الله السميع العليم .. ومن شر حاسدٍ إذا حسد .." هكذا كان مدفع لسان زينوب المدرَّع والذي كان محشوَّاً بلسانها - المرأة المعروفة في الحارة بصلابتها التي تعادل عشرة رجال أو يزيد – دفاعاً عن نفسها ضد نيران فطُّوم الكلامية التي انهالت عليها لحظة وصولها للمجلس النسوي ..

"أقول حريم .. عجب وين عوَّاش اليوم ما أشوفها هنا معكن ؟؟" .. قالت زينوب..

"هيه والله صدقش ما شفناها اليوم .. بس أخبركن من نخلص متقهويات بنروحلها البيت نسأل عنها ونتفوَّل بالمرة من عندها .." قالت شمُّوس العرجاء بائعة المراوح اليدوية والمصنوعة من سعف النخيل ..

"هيه والله نوبه زين .. غاوي" .. تمتمت زينوب ورفيقاتها بالموافقة على قرار شمُّوس العرجاء .. وأخذن بعدها في حوارهن المعتاد .. كلُّ واحدةٍ منهن تقصُّ حكايةً عن زوجها والجميع ينصت لمن تتحدث .. تلك تمدحه .. وأخرى تذمه حتى في عدم حضوره .. تلك تعاتبه عن ليلة البارحة حينما كان عائداً منها مخموراً حد الثمالة .. وأخرى تمنت لو أنها ما عرفته يوماً .. أما شوَّاخ بائعة العطور والبخور فقد اعتذرت لهن في الخوض عن سرد حكاوي طليقها فما بها من ذكرىً أليمة كافٍ لما هي عليه الآن من سوء حال ..!!

تعتلي شمس الصباح كبد السماء قليلاً .. ويتحدث مذياع زينوب السبعيني ناطقاً على أن ساعة برج الصحوة قد أعلنت بأن العاشرة صباحاً قد دقت وحانت ساعة ميلادها ..

يتفق الجميع بقرار الذهاب دون أن تعتذر عن الذهاب إحداهن إلى بيت عوَّاش ..

يتجهن كسربٍ يسابق الغروب .. يتقدم ذاك السرب زينوب وذلك طمعاً لنيل أول من يعرف خبر تغيُّب عوَّاش عن الحضور صباح اليوم لمجلسهن النسوي ذاك ..

دقائق .. ويصبحن أمام بيتٍ كان قد تساقط طلاءه .. وتآكلت جدرانه .. وغدت نخلة الخلاص هي من تسند جدار الحوش الذي لولاها لتهاوى أرضاً منذ أيامٍ وأيام ..

تطرق زينوب الباب الخشبي الذي كاد أن يفارق الجدار الذي احتضنه منذ زمن لولا أنها اكتفت بطرقه مرتين فقط ولو أنها أكملت الثالثة لتهاوت تلك الباب من على وقوفها ..



يُفتح الباب ..


يظهر من بين فكَّيه صبيٌّ صغيرٌ كان لم يتجاوز الثامنة بعد ..

"هيْن حبُّوتك عوَّاش يو حبابي ؟؟" تسأل زينوب الطفل الذي سرعان ما توارى عن الأنظار ما أن رأى شبحاً لوجه عجوزٍ رسمت منه التجاعيد غابةً ظلماءٌ وليلتها بلا قمر ..

تتعالى ضحكات النسوة على ما حدث من أمر الصبي بسببها .. وتكتفي هي بتلك النظرة التي كانت تدل على أن بركان غضبها كاد أن يثور لولا أنهن تماسكن وكتمن ضحكاتهن كيما لا يثور ذاكم البركان الآدمي ..


لا تزال صوت أقدام الصغير يُسمع وقعها وهو يركض مبتعداً عن الباب وعن ذاك الشبح .. أعني .. زينوب الشبح ..

ما أن صمتت أقدام حذاء الصغير حتى ظهرت أمامهن امرأة تسعينيةٌ نحيفة بشكل كبير غدت وكأنها جذع شجرةٍ ما ارتوت جذوره ماءً منذ سنواتٍ وسنواتٍ طويلة ..!!

"عوَّاش .. سلامتش يو الحِبّة .. مو فيش كذا قالبه صفراء حمراء كنش طماطه ما عاقده ؟؟" قالت زينوب لحظة رؤيتها لعوَّاش واللتان تبادلتا التقبيل على الخدود المتجعدة وكذلك العناق الذي رسمتا للوحة كانت أشبه لسعفتي نخلة خلاصٍ تتراقصان مع رياح صيف نهارٍ حار ..!!

"الله يسلم حالش يا الغالية .. ما أعرف !! من الغبشه وأنا جالسه أزاوع ما ادري وش حلْ عليّْ من العوق .." أجابتها عوَّاش .. ثم تُكمل..
"تفضلن تفضلن .. دخلن .. تراكن ما غريبات .. البيت بيتكن .. " ..

يدخل السرب إلى بيت عوَّاش الخالي من أحدٍ عداها هي وصغير ابنتها الجامعية مريم ..

تقترب عوَّاش من باب الصالة كي تُجلِس الحريم - أو بالأحرى رفيقاتها - بداخلها .. لكن عليَّاً كان قد أفلت مسحوق الملابس من يديه عندما كان يفر هرباً من شبح زينوب والذي نثر حبَّاته على البلاط التركي ..

ما أن وطأت يمنى جدته عوَّاش رغوة ذاك الصابون حتى جرَّت بقية جسدها وراءها ..


لحظات .. وتغدو العجوز ممدة على فراش الأرض بلا حراك ..

هدوءٌ كان أشبه لما قبل العاصفة يحل بتلك اللحظات والجميع يُجبر على الصمت دون أن تتفوه إحداهن بكلمة أو حتى حرفاً ..

لا أحد فيهن كان يحمل هاتفاً خلوياً .. والمصيبة الأكبر أن جميعهن كن أمّيَّات ولا وظيفةَ لديهن إلا "الثرثرة" التي يمتهنَّها ليلاً ونهاراً ..


تقترب المعلمة شريفة منها .. تنظر لعينيها الجاحظتين فتدرك بأن عوَّاش قد فقدت وعيها .. أما زينوب فكانت قد أحضرت كوب ماءٍ وجعلت ترش به على وجه عوَّاش المتجعد علها تفيق بسببه..

لا تزال عواش في صمتها وغيبوبتها تلك .. وما زاد الموقف عُسراً هو أن جميعهن لا يعرفن كيف يُسعِفن من فقدت وعيها ..


في تلك اللحظات وعلى ذاك المشهد .. إذا بباب الحوش يُفتح ..


تدخل عبره فتاةٌ عشرينيةٌ بعباءتها السوداء .. وبين يديها تحتضن مجموعة كتبٍ كانت قد أحضرتها معها إلى البيت ..

تَهرع الفتاة إلى جسد أمها الممد على الأرض والذي كان يبدو بأن الدماء النازفة من جبينها على وشك أن تغطي نصف جسدها ..

تحاول أن تتدارك الموقف وتحبس دموع عينيها التي أوشكت على أن تنطق عما بداخلها من خوف مما هو قادم ومما يخبأه القدر لها ..

تسحب قطعة قماشٍ أو ربما كان غطاءً للرأس لإحداهن .. تشقُّهُ إلى نصفين كمحاولةٍ منها لإيقاف ذاك النزيف .. تلفُّهُ سريعاً .. وتحملها بمساعدة بقية النسوة إلى سيارتها التي تطير بها سريعاً إلى المركز الصحي الذي يبعد عنهم حوالي ال27 كيلو تقريباً ..


تعبر بسيارتها شوارع المدينة المكتظة بالسيارات وبالآدميين الذين يقودونها والذين كان جزء آخر أيضاً ينتشر على طرقاتها وأسواقها ..

تكاد الفتاة مريم لا تقوى على إيقاف هدر دموعها وذلك خوفاً على أمها التي ربما قد أوشكت على الرحيل .. إذ أنها قبل أن تهم بها إلى سيارتها لم يكن هنالك أي دلالةٍ تشير على وجودِ نبضٍ أو حتى نفس ..


ها هي تصل أخيراً إلى المركز الصحي ..


تُدخَلُ جثة عوَّاش الهامدة قسم الطوارئ ..



توضَعُ على أحد الأسرة والتي سرعان ما غُطّي ما عرى من جسدها برداءٍ كان شديد البياض ..!!!!


ذكريات مضت .. الأربعاء .. 26/08/2009 للميلاد..
عند الواحدة والنصف صباحاً ..
خالص التحية لكل من تواضع لقراءة شخبطاتي ..
//وتحية إلى شخصي//



*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..