بعد مرور الهزيع الأخير من الليل,مجترا أذيال الهزيمة على عتبات عينيه, التي لم ترضخ لسلطان الرقاد, حل الفجر وشيكا , وجنين سناه انبلج من جوف المساءات التي اتشحت سوادا كثوب حداد في بلد الأتراح ,حيث النواحي المجهولة التي قصدها سندباد العربي منذ مليون سنة ونيف .
تلك الليلة مادت الأرض ميدا عظيما, وماج الفضاء, وكانت قطرات المطر تطرق بلور نافذته بوقعٍ يتصاعد .. شيئا فشيئا.
خلف البلور الزجاجي لنافذته إسفنجة أخيرة اختطفتها أنامله المخضبة بالعرق, من درج في مطبخ أمه, لينتف من جسدها المرصع بالمسام ,ويحفر فيها وكرا لبذرة الفاصولياء,ويسكب بعدها ماء الحياة بذات التسلسل الرتيب .

ينظر إلى البذرة تارةوقد أُشبعت رياً ,وانتفضت من غفوة سباتها ,فإذا بها انشطرت نصفين, شاقة سبيلها لِتُزَف إلى عالمها العلوي ,بجُذير وسُوَيق ووُرَيقة , وتارة أخرى ينظر إلى الإسفنجة ,وقد تشبعت ثغراتها بالماء حد التجشؤ, فما عاد لتلك القطرات الهابطة من السماء متسعا , ثم صوب بصره نحو الأفق الغارق في الظلام المدقع ,والضباب خِدر عذراءٍ يلف جسدها خشية بطش الصقيع, وزمهرير البرد الموغل في الأجساد كما الأرواح.

غرق ملياً في التفكير بالعصافير الصغيرة بعد أن بلل الماء ريشها ,وفقد قش أعشاشها سحره ودفئه ,وتخيل وقوفه على الرابية البيضاء تغزوه اليراعات المتطفلة,منجذبة إلى بياض ردائه في حلكة السَحَر. لم يشأ الاسترسال في أفكاره التي تجبر رأسه على الزوغان خارج رأسه, فحَول نظره إلى زوايا غرفته المعتمة..
كانت عقارب ساعة الحائط تشير إلى الرابعة والنصف فجرا .لم ينم تلك الليلة .هنا تمنى لو كان عاصفة مزمجرة تبتلع كل الساعات المعلقة على الجدران, أو تلك التي يرتديها الناس لتقيد أهواء الفراغ واللامبالاة , ليوقف الوقت عن التجندل نحو هاوية النهاية ..

مستسلما ً للكرى والأحلام تناديه, أرخى جفنيه وأنصت إلى تواتر شهيقه وزفيره ,تلك الترنيمة المعتادة التي لطالما عشق الإصغاء إليها,تشعره كم هو بعيدا عن الاقتباس , لا تجسمه ريشة فنان , ولا يجسده نحت رخامي. وكم هو قريب من مدارج السمو النوراني , يحب ذاته محبة يخالجها التقدير, ويمازجها الوداعة .

يدرك في هذه اللحظة أن انعتاق نفسه من عبودية خيالاته , ومعرفة طول النبتة اليافعة بعد صراع مضنٍ مع ليل شتوي ماطر, لن يتم إلا بعد انحسار القوافل الرمادية عن صفحة السماء, وشعاع الحب يكلل هامة الشمس الآفلة منذ نصف يوم مضى .


يخيل إليه كيف اهتزت الإسفنجة وربت, وكم كان نضال نبتة الفاصولياء الوليدة شاقا في تلك الليلة المهيبة بالعواصف الرعدية..
بدأت جفونه تصبح ثقيلة الحمل غرق بعدها في سبات, ولسانه يتمتم : ما أحب الحياة إلينا , وما أبعدنا نحن عن الحياة !

مفترشا أزهار الياسمين ,وملتحفا وجه السماء المطرز بالزُهرة والشِعرى اليمانية ,كان الابتسام يراود شفتيه ,حين أناخ رأسه على راحة يدها,متفحصا بخده تعرجات باطن كفها, وخطوطه الأخرى , مستنطقا أسرار لمستها الآسرة .فتح عينيه كانت هي كما توقع, سائرة نحوه في موكب الحب الأزلي, والجمال حولها رافعا راياته ..

الهواء حوله معطر بمِسكها , كانت تلك آخر رائحة اختزلها في ثنايا رئتيه .نظر إليها ملاكا في مراتع المرئيات ,ولفظ كلمته الأولى ذاتها التي تشق طريقها عبر أحباله الصوتية كل صباح : أمـــــــــــــي .

آه رأسي يا أمي مثقل بالأفكار والكلمات والتأملات والتذكارات. المطر هطل بغزارة, ونبتة الفاصولياء لقد ....لقد...

آه تذكرت.. حبيبتي ناوليني المسطرة بسرعة .هب من فراشه مهرولا نحو نافذته ,فتحها وحدق مشدوها في ضفائر الشمس تكسو كتف التلال, وثرثرة مبهمة تملأ الفراغات ضجيجا للطيور المهاجرة بلغة النواحي البعيدة,والتي لا يفقه عنها شيئا , وحفيف الأشجار غناء بلابل وعنادل, كان ثوب السماء حينها منمقا ,وعرش من الغيوم لا زال يلحق بالموكب, تقوده بنات نعش بخيلاء .
أومئ إلى أمه أن اقتربي وقاس طول النبتة ..بلهجة المخذول صرخ: 3 بوصات فقط ! تماما كطولها الأمس.
وانكفئ خائب الظن ثقيل الخطى ككل صباح..
نظر إليها فإذا هي قلب بشري كالنسيم إذ لم تتعلق بأذياله أنفاس الأنا المتعجرفة, والمتناسية لأصلها الطيني..
أعتذر أمي لقد أفنيت إسفنجاتك عن بكرة أبيها. لكن انظري أليس إنجازا عظيما عدد نباتات الفاصولياء التي زرعناها في حديقة منزلنا؟؟
التفت إليها متمعنا في حركة شفتيها, يقابله في هذه اللحظة امرأة عيناها تلمعان كحبات اللؤلؤ المنضود ,تناجيه جاعلة من عينيه آذانا,تفقه لغة الأرواح السابحة في الملكوت, ومبتدعة من شتاته قلبا أناره التعلق ,وأفعمه الأمل..
نعم يا حبيبي أضحت حديقتنا أجمل بنباتاتك الأخاذة في حسنها . وأنا أحمل لك نبأ ً سارا سيأتي معلمك وزملاؤك لزيارتك ,وللاستمتاع بجنائن الفاصولياء خاصتك .

تهللت أساريره, وبدت نواجذه ,فإذا بقلبه الخفوق طيرا سابحا في محاريب الجذل : اشتقت إليهم ..تُرى هل أتوا ليعزونني؟
فأنا لي في مصابي معزيا ,هو إدراكي قوة حبك لي, ورغم أنني أرنو من وراء ستار دموعي إلى المنية تقترب مني أكثر فأكثر ,إلا إنني أشعر بسعادة يعجز عن احتوائها جسدي العاجز, بل وحتى أعمدة السماوات الفسيحة ,والفيافي الممتدة أماه..

كان يقولها والجَلَد في روحها يفيض في مساحات من سدم ومجرات وأكثر, فكم أتقنت دور الصابر على البلاء, وأي رزء ألمَ بفاطمة أعظم من مصابها الجلل في فلذة كبدها أحمد ,وانتظارها المُر لحظة تشييع جثمانه, ألمٌ ينخر في جسدها وروحها,وهي تشهد لحظات احتضاره في محراب عينيها .

وكل عزائها في قوة مواجهته لحقيقة مرضه ,معمعة يديرها القدر المحتوم , وابتسامة الرضى في محياه ابتسامة محارب ,يدرك تماما أن الموت فيها احدى الحسنيين بل كلاهما.كل هذا رفعها من دركات الألم الذي يعتصرها, إلى درجات الصبر والإيمان الموغل في أعماق سريرتها, حيث عنفوان الأمومة يرقد بسلام .

وحل الموعد المُنتظَر,بسعادة غامرة..مستهلا أطراف الحديث :هل رأيت عدد نباتات الفاصولياء في حديقة منزلنا يا أستاذي ؟ إنبات البذور في ثغور إسفنجة ,والاعتناء بها كما علمتنا في آخر حصة جمعتني بكم , داخل جدران صفنا الذي لطالما كان شاهدا على صراخاتنا ,ومقالبنا المزعجة, والأسئلة النهمة التي توالت على مسامعك تترا ..كل مرة.
ترقرق الدمع في عيني أستاذه : نعم ولا زال مقعدك الخاوي يا أحمد ناطقا بنبوغك ,وحسن خلقك ..أيها الرجل الصغير: لقد علمت أقرانك كما علمتني, أن خلف السماء عوالما أخرى, فيها ما لا رأت عين ولا خطر على قلب آدمي ..

إن شجاعتك في مواجهة مرضك جعلتنا نحب الحياة أكثر, وأضحى لنا مسارات تتسامى فوق ضباب التنهد والأسى, وبان لناظرنا المستقبل أشد إشراقا . كما أن علاء وخالد وقصي جميعهم أصبحوا أشد عزما على إكمال مشوار بدأته أنت ,بنظرتك التأملية المتفردة لدقائق تفاصيل الحياة حولنا , على ترامي نواحيها , وتباين مشاربها .



متأملا في حديث أستاذه ابتسم متسائلا : - هل هناك ما هو أعلى من السماء ؟وأعمق من البحر؟ وأقوى من الموت يا أستاذي؟
- هز رأسه مغالبا مواجعه : نعم .. أيها الرجل الصغير .


- إذاً ما الذي أخشاه ..لست الوحيد المصاب باللوكيميا (سرطان الدم ) , لن أكون سامريا آخر يعوي في البيد أن لا مساس, ولئن كان هذا قدري ,ولئن كانت نباتات الفاصولياء آخر حياة أهديها للحياة ,فإنني أتوسل النسائم أن تحمل إلى أزقة قريتنا وروابيها الشماء من جنائني أزكى ذكرياتي, التي لا تتجاوز في أوجها جدران مدرستي, وسقف بيتي, وعرصات المسجد , وأريج فاصولياء يتيمة .

يا أصدقائي إن المستحيل مجرد أهزوجة يرقص على أوتارها العابثون,وأفواج القوافل المكبلة كواحلها بسلاسل الهزيمة ليست أهلة تهتدون بآثارها المنحوتة في الرمل , قد ولت وجهها شطر اللامكان , أما أنتم فولوا وجوهكم شطر الدروب التي يأسرها النور.

ارتعشت نفوسهم وتسارعت تنهداتهم ,نواحا مُرا , وزفيرا متقطعا يملأ الضلوع ندبا .احتضنوه والدموع المخنوقة في أحداقهم ينفد احتمالها :هكذا تفعل النفوس العظيمة التي تحتمل أوجاع الحياة بسكينة, يا أخانا الأغلى . لنا لقاء في قادم الوقت.
تفرقت أجسادهم, ليطل أحمد من نافذته مدركا ببصيرة الراحل في أعماقه السامقة أنها النظرة الاخيرة . فالألم يستشري في نخاعه كما تستشري النار في الهشيم ,وحدسه الملائكي ينبؤه باقتراب خط نهاية السباق المحموم.
استند على جدار من جدران قلبه ونام, آملا لكل الخطى التي تمخر عباب الكون دون هدى, أن ترفع هاماتها المنكسرة باتجاه السماء كل صباح , لترتعش أفئدتهم المخملية لجمال الحياة برغم أحاجيها, التي تستعصي على فهم البعض.
بين أضلع ذلك الوادي, حيث أشعة القمر تسترق النظر إلى خطوهم ,وآذان الجمادات تنصت لنحيبهم , والليل قد أرخى سدوله على صدر السيح المستلقي في سفح الوادي, بدأت الظلمة تنسل شيئا ً فشيئا ًإلى هذا العالم مترامي الأرجاء .دبت الحياة في صمت الرهبة ,وسار موكب الموت في عرس رجل صغير لم يتجاوز عمره ثلاثة عشر عاما بنسبية الزمن الأرضي, زفافا بكل الألوان , يخالط مآتمه ولائم .فهل كان موعدا للفرح أم رحيلا سرمديا إلى حيث الاغتراب يكون وطنا؟

جراحها المثخنة ,ودمع محاجــرها لم يثنيا مسامعها عن ترديد صــدى نــزف بوحه الأخير, مخنوقا في حشرجــة الكفـــاح المستميت , والذي كُلل بالغار تاجا : أمي دعي نوافذ غرفتي مفتوحة للشمس والأطيار, وراقبي الفاصولياء حين يشتد عودها,منتصبة سوقها, موغلة جذورها في جسد الاسفنج المغمور, ثم انقليها بجانب رفيقاتها في جنائنها ,راقبي كيف تحيـــا برغم الغياب, وكيف تستأنس وحشة الظلمة دون خيفة.

لا تغمري ذكراي بالتأوهات والعبرات,بل ابقيني في كواكب عينيك رقما صعبا يستخف بالمستحيلات, وارسمي بأصابعك الحانية على صوري المبعثرة تسبيحة الخلود .أركني في فراغات غرفتي أحلامي التي تتقد شراهة ,فالأحلام وحدها تفهمني .

ستجدين دائما يا أماه حولك ما لم يستطع الموت سرقته منك ومني :حياة أخرى بعيدا عن جنائن الفاصولياء . حياة أخرى تستحق العناء .
نزف قلم:أمل الحرملية



*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..