: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أم من أمور الشَّهادة؟
الوجه السادس: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أم من أمور الشَّهادة؟
الجواب: مِن أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يُعذَّب، ونحن لا نشعرُ به، وكم جار له مُنعَّم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما في القبور لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا به ما علمنا؛ ولهذا لمَّا دَخَلَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة، وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فارتاعَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنَّما تُفْتَنُ يَهُودُ» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل شعرتِ أنه أُوحي إلي أنكم تُفتنون في القبور» قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بَعْدُ يستعيذُ مِن عذاب القبر[(321)].
ولكن قد يُطلع الله تعالى عليه مَنْ شاء مِن عباده، مثل ما أطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على الرَّجُلين اللذين يعذَّبان، أحدُهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول . والحكمة من جَعْلِهِ من أمور الغيب ما يلي:
أولاً: أنَّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين؛ فلو كُنَّا نَطَّلِعُ على عذاب القبور لَمِتنا؛ لأن الإنسان إذا اطَّلع على أنَّ أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يُعذَّب في القبر ولا يستطيع فِكَاكَه، فإنه يَقْلق ولا يستريح، وهذه مِن نعمة الله سبحانه.
ثانياً: أنه أستر للميِّت، فهذا الميِّت قد سَتَرَ الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه التي بينه وبين رَبِّه عزّ وجل، فإذا مات وأطلعنا الله على عذابِهِ صار في ذلك فضيحة عظيمة له، ففي سَتْرِه رَحْمةٌ مِن الله بالميِّت.
ثالثاً: أنه قد يَصعُب على الإنسان دَفْنُ الميِّت؛ كما صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لولا ألاَّ تدافنوا؛ لسألتُ اللَّهَ أن يسمِعَكم مِن عذاب القبر الذي أسمعُ منه»[(323)].
رابعاً: أنَّ في ذلك إزعاجاً لأهله وذويه، وربما عُيِّرُوا بذلك وأُهينُوا.
خامساً: لو كان العذاب ظاهراً لم يكن للإيمان به مزيَّة، لأنه يكون مشاهداً، وهو من أمور الغيب التي يُثنى على مَنْ آمن بها، ثم إنَّه قد يحمِلُ النَّاسَ على أن يؤمنوا كلهم؛ لقوله تعالى: {{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}} [غافر: 84] فلو رأى النَّاسُ هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون لآمنوا وما كفر أحد، لأنه أيقن بالعذاب عين اليقين، فكأنه نزل به فلم يكن للإيمان به فائدة. وحِكَمُ الله سبحانه وتعالى عظيمة والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزمُ بخبر الله أكثر مما يجزمُ بما شاهده بعينه، لأن خَبَرَ الله عزّ وجل لا يتطرَّقُ إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينك يمكن أن تتوهمه.
فكم مِن إنسان شَهِدَ أنَّه رأى الهلالَ؛ وإذا هي نجمة. وكم مِن إنسان شَهِدَ أنه رأى الهلال؛ وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه، وهذا وَهْمٌ، وكم مِن إنسان يرى شَبَحاً ويقول: هذا إنسان مقبل؛ وإذا هو جذع نخلة. وكم من إنسان يرى السَّاكن متحرِّكاً والمتحرِّك ساكناً. لكن خبر الله لا يتطرَّق إليه الاحتمال أبداً. ولهذا نسألُ الله لنا ولكم الثبات. فالمؤمن يُوقن بخبر الله أشدَّ مما يراه في عينه مِن قَبوله والإيمان به.
من كتاب الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الثالث
محمد بن صالح العثيمين
المفضلات