«مسندم» سرديات الدهشة والماء*

فاطمة الشيدية -
1.
“إلى مسندم”، هكذا هتف النداء ذات جمع حميم، وهكذا شحذ كل منا أوراقه، وأحلامه، وصوته وأصابعه ووهجه، وحزم حقائبه الخفيفة إلا من الود والكلام والأمنيات النابتة في الغيم، وهكذا كان علينا أن نتقمص دور النوارس لنحلّق إلى الزرقة، لنتحد وروح الماء، لنأنس بالكثير من المحبة والشعر والقصة والصداقات، والكثير من الإنسان المتسع، والوطن المحتدم داخلنا.
هبطنا في قلب الزرقة تماما، كأشرعة جذلى بالبعيد، ومضى الركب بامتداد الدهشة، بدأنا نفرد أجنحة الرؤية، ننحني كي نصلي للشعر صلاة الماء، ونرقى كي يغسلنا الأفق الممتد بما تيسر من الوهج، وكي تعمّدنا الزرقة بنثاثها، فنلين في المتبقي من الماء.
2.
أصبحنا بين جنبي خصب، خصب؛ إذ الزرقة تحتضن الأفق، والماء يروي للجبل الحكايات المالحة وتفاصيل الانعتاق والتيه، والنوارس تضحك للسفن المولعة بالتمرئ في قلب البحر، والمثخنة بالجراح والوجد كل مساء، ولا وجه للماء إلا المدى.
خصب إذ يتكور البحر بين جنبيها كجنين في رحم الدهشة، يمشي في أروقه الحارات، يخاتل الليل والمسافات الطويلة، ويتمدد بالقرب من كل شيء، ولاشيء يحجب طقوس الفتنة.
“جبال من نور الذهب
ورجال من طُهر العرب
سيرة حياة البحر
ذكرى السُفن في وجه المَهَبْ
هااااذي خَصَب”
(حمد الخروصي)
3.
كنت أعانق خصب للمرة الأولى، أنا ابنة الماء القريبة منها، لتبدأ العلاقة بيننا من نافذة الطائرة المزدحمة بالوجوه القريبة، والتي اختارت لي الصدفة الجميلة فيها جارة ألمانية في المقعد، لأدفن مجددا غربتي في غربة أخرى، ولأصدق قول امرئ القيس أجارتنا إنا غريبان هاهنا ** وكل غريب للغريب نسيب
من نافذة الطائرة التي “يسعفني بها الحظ العاثر غالبا” بدأنا أنا و”مسندم” الحوار الذي لن ينتهي أبدا، إذ لمحت ذلك اللسان الترابي في البحر، ذلك اللسان الثرثار بالفتنة، الذي يخترق البحر بهدوء ورقّة، فتلمحه من السماء، يخبرك الكثير من الحكايات عن الماء والرمل والغزاة والنخيل، اللسان الذي يحرسه الجبل بعينه التي لا تنام.
4.
فتح لنا البحر أحضانه، جلسنا بالقرب من قلبه تماما، علمنا أن نصغي لنبضه، وحكاياته الكثيرة، أن نرهف السمع كي نتّحد مع أمواجه وأصدافه وسرطاناته المولعة بالعناق الدائم للموج اللعوب، علمنا – وهو المعلم العظيم – أن نحسن الصمت والإصغاء والحب لنستمع للوجود، ونستمتع بالجمال في الكون وفي الأرواح، وأن نرتفع كالغيوم مع كل هذه الزرقة ومع كل هذا الماء عن كل شيء، وعلى كل شيء، البحر الذي كأنه يتدفق من الأفق، ويسيل في القلوب والشرفات والنوافذ، وتعانقه الأجساد الخفيفة في اللهفة الزرقاء، وكأن فتنته الزرقة تنبجس من أرواحنا وعيوننا ولهفتنا المنبهرة بكل هذا الوجود الأزرق، وتخرج من القصائد، والحكايات، ومن الهمس الجانبي، والحوارات الكثيرة، وتسير بين الحاضرين، وتسيل على مقاعد المطعم، وفي بهو الفندق، وتعلو المنصات المعدّة للإلقاء، وتصافح الأصوات المتشنجة بالخوف، وتعانق الوجوه والأيدي المتحدة مع الفتنة.
انتشينا، وتراخينا عند مداخل اللغة والماء، وأخذتنا قشعريرة الدفء، وقشرنا الشعر الذي حملناه في حقائبنا، وقلوبنا وأرواحنا، فخرج طازجا، انتثر في الأفق، اتحد مع الماء، تمادى في الزرقة، تبعثر في الكون، توزع في الحنين والثرثرات والسهرات الممتدة، تعالينا على فكرة المسابقات والمناسبات، تلبسنا اللغة والماء حنينا وجمالا فقط.
5.
كانت النهارات تقضي ساعاتها في فروض التأويل، والقراءات والتفاصيل الكثيرة التي تستمد غاياتها من فعلي الوجوب والإلزام، وتنتهي في دفء الكلام الجانبي، وكانت المساءات تأتي على مهل، تأكل منها بعض الجلسات الإلزامية، وتعمدها القهوة بحنينها الخرافي، وقد تسعفها الموسيقى التي تسكن الرؤوس والهواتف النقالة والقلوب والأرواح، وتجلس أحيانا بالقرب من الماء تماما، تنظر للبحر بلهفة عاشق، وتقترب منه بحنانات شاعر وحيد لتخفّف من عناء الوقت، وقسوة الأسئلة التي لا جواب لها، ثم ما تلبث أن تتحول لأغنيات وحكايات عذبة، يحضرها الشعراء والمتصوفة الذين يخرجون من قبورهم، يقطر منهم الشعر والجمال، فيجلسون إلى جوارنا تماما، وقد يتقدمون علينا في صدارة الجلسات والحوار والنقاش، المتنبي، والسياب، ودرويش، وأدونيس، وابن عربي، والغزالي، والحلاج وغيرهم.
6.
كانت القصائد تصعد المنصات وحدها كغانيات تغري الحاضرين بالفتنة، تقترب وتبتعد من عمق المعاني، ولذة المجاز، تتثنى في غنج وتسيل في رقة، وتتصاعد في عذوبة، وتبهر العقول، حين يبدأ التثني”لما بدا يتثنى” ، منها ما كان عذبا كنهر لجي، ومنها ما كان متصحرا، ومنها ما كان ذاهبا في الالتباس متشحا بالغموض، ومنها ما كان حارقا كشمس تموز وآب أو أيلول المسقطي أيضا، ومنها ما كان عاليا وكثيرا، ومنها ما كان ضعيفا ووهنا، ومنها ما استحق لاحقا التكريم، ومنها ما همس له البحر اقرأ أكثر، اكتب أكثر، تشرّب كل شيء بعمق وإيغال؛ لتكتب بوعي وجمال أكثر.
وكذا الحال للحكايات القصيرة، حيث كانت تسير مكتهلات في أثواب بهجتها الطويلة والقصيرة، بهدوء وخفة تصعد للمنصة، بعضها كانت أجنحته أكثر اتساعا من ثوب المجاز، وبعضها كان يتعكز على لغة أو فكرة ما، فتحضر وهنة غير قادرة على بث الروح في الحكاية، وبعضها كان عميقا وجارحا، وبعضها كان خفيفا يجرب صاحبة الحضور، ويحاول التمسك بعصا السرد.
وكذلك حضر النقد – ولو على مضض وخجل- بمدارسه وأفكاره، وبمباضعه، ومشارطه، يحاول أن يسوي حديثا جانبيا مع الجمال المفترض، مع الكثير من التحديدات والتحديات اللازمة للتواجد الحقيقي، واللغة والفكرة والصور والاستعارات والممكنات والطاقات والبنى الداخلية للنص (المعجمية، والأسلوبية، والإيقاعية والدلالية)، وإحداث فعل التنظير القليل في النصوص، النقد الذي يفيد النص، ولا يثقل الأرواح المحلقة.
7.
بنظرة عن بعد للحالة، وللفعل الثقافي الذي يتشكل بهدوء ويذهب للمستقبل؛ تشعر بالتفاؤل، ثمة حالة ثقافية تتشكل بجمال ووعي، ثمة خفة وجمال إنساني يعلو فوق كل الترهات، ثمة إنسانية وصداقات ومحبات حقيقية ودافئة تصاحب الحالة، لا يوجد حسد “عماني”، الجميع يتمنى لنفسه وللآخرين الفوز، الكل يساعد البعض، بعيدا عن كل الإشكالات الثقافية المنتشرة كالفطر السام في الأوساط الثقافية غالبا، لا وقت، ولا مكان، ولا قلوب سوداء لطقوس النميمة، والحضور الناقص الذي لا يليق بالأرواح والقلوب الجميلة، المرأة متآخية مع الرجل في الحالة والحضور والفعل، الأخوة والصداقة هي الحالة النبيلة العميقة الماثلة بقوة ونبل ورقي، يتعلمون من بعضهم البعض، ويسندون عثرات بعضهم، لا يبحثون عن هنات وثغرات بعضهم إلا ليسدوها ويرتقون ثقوبها، ويصلحوا ما أعوج في مراياهم الداخلية.
“الأصدقاء صنعوني، علموني، ساعدوني، شكلوا وعيي، وساهموا في إنضاج تجربتي” هذا لسان حالهم جميعا، شغف جمعي بالفكرة، حالة جمعية من النقاء والصدق، رغبة في التعلم، وتطوير النص، وذهاب أجمل نحوه، لا توجد أغراض داخلية سوداء أو باهتة، الجميع مؤمنون بقيمة الكلمة، وقيمة الآخر، ومشتركات الفعل الثقافي بين الإنسان خارج جنسه ومكانه.
8.
ينتهي الوقت، تحضّر القصائد والحكايات الأجمل نفسها للعرس الأخير، تلقي لجنة التحكيم عن كاهلها ثقل النصوص والمعاني والأفكار، تصبح الفكرة أجمل، والروح أخف، يصبح الجمع كتّابا وأصدقاءً وأخوة فقط.
يحين الذهاب للبحر، نذهب للماء تماما، تنهب السفينة أرواحنا وتمضي، يتكلم الخشب، يتضاحك مع الماء، يتعشّق حنانات الزرقة، وجمال البحر، تحضر مقارنة غريبة بين “العقبة” و”خصب” ، هل هذا هو التشبيه المقلوب إذ تشّبه قطعة من قلبك بمكان آخر ؟! هذا ما حدث تماما، ذات الزرقة، ذات الماء والصمت والهدوء والجمال المتسامق، والمنتزه الجميل هناك وهنا، ولكن هناك كان قبل هنا .. للأسف! وكأن قدر القلب أن يعبر بين زمنين ومكانين، بين ظلين، وذاكرتين، بين حلمين، وبين مرآتين؛ كشبح وحيد أبدا.
9.
في مكان قريب من فعل الجمال اللفظي والصوتي، هناك فعل الجمال المتجسد خارج اللغة، فعل نقارات الخشب، الفنانون الذين يجسدون رؤاهم في تجليات أكثر حضورا وجمالا، في مجسمات خشبية، أجساد ورؤى وأفكار تحاول أن تخبرك الكثير عنها، وعن أرواح من طرقوها بعمق وليونة ورقة، ليعيدوا تشكيل حضورها الأول لحضور آخر، لينطقوها بأسرار الغابة، والطبيعة والكون والإنسان، لغة تعلو فوق الكلام، وجمال سيظل شاهدا على عمق الفن وروعة الفنان، كنت أتجول بين تلك الكائنات وأستشف أسرارها، وأتحاور مع صمتها، وأذهل من إبداع صنعتها.
تدق ساعة في مكان ما من هذا الكون، يقطّب جبين الرؤى، ويمشي الهوينى خوف لذيذ وانتظار مريب، تتغير الحالة لتأخذ حقها من الرسمية التي تهرب منها الروح، فتحجز مكانها في الماوراء البعيد، كي لا تركن لما لا تحب، أو لتهرب مما لا يشبهها، وحالة لا تغريها كثيرا، ولا حتى قليلا، كي لا تكون متشبهة أو مشتبهة بآخرين.
يحين وقت تغير الحال الجميل، والوقت المغسول بالزرقة، لتتصدر “المسابقة” الوضع، وتصبح الحال مربكة، نصوص تذهب لتأخذ حقها من الضوء، وأخرى تظللها العتمة، تضج القاعة بالتصفيق مع كل نص يعلن عن تميزه وتجليه وحضوره، ويضيق قلبي مع كل إعلان خوفا على البقية، يكسر الخوف والقلق رؤية تلك الابتسامات الطيبة، تعلو كل محيا، من الفائزين أو غير الفائزين، الرضا يتصدر المشهد والقلوب والوجوه، ” الحمد لله” هكذا تند زفرة من القلب الذي يرعبه الظلم، والقسوة والجفاف.
وتمضي سويعات مقبلة بين الليل والنهار تمدد في الكلام والسفر والتحليق، لتنطوي صفحة الماء، ونترك الزرقة تكتحل في مرايا البحر بعيدا عنا وقد حملناها داخلنا، وهي تعد غوايتها لقادم آخر، نترك “مسندم” لنحلق فوقها في امتداد حوار الشعر والزرقة والماء المستمر داخلنا.
10.
أيها اللاأحد ..اللاشيء
عدت الآن من كل شيء إليك
مجللة بالهباء
مثمرة بالفراغ الجميل
مورقة كالماورائيات البعيدة
كالضوء يزهر في التشظي
وكلون البحر المخاتل لا يستقيم
أحبك الآن أكثر
اعرفني الآن أكثر
وهذا يكفي
كي أعمد البياض الذي داخلي بالهواء
وأحتضن العدم
وأنام
* الملتقى التاسع عشر للشباب الذي تقيمه سنويا وزارة التراث والثقافة، في الشعر الفصيح والشعبي، والقصة، وورشة فنية للنحت. والذي احتضنته محافظة مسندم، ولاية خصب من 8-12 سبتمبر