الوجع يعني وطن !

صديقي ..
هل ستغفر لي هذه المرة قلة ذوقي ، وأنا أعترف لك أني شتمتك مرة واغتبتك مرات ؟ ،
هل سيلتهمني حضنك مجدداً كلما هممت بالتجرد من معطفي الأسود ، وأريك مدى قبحي الذي يخفيه أسودنا ،
ذاك الذي اخترناه معاً ذات يوم ، وقررنا أن نقتنيه كرمزية للنقصان لا الكمال !

لم أكن ذاك الأنيق المحمل بالصمت أمامك يوماً ، لن تراني إلا طفلك المنسي في زاوية المقهى وأنا أعبث بالدخان وأثرثر لك ..
عن جروح تحتاج لخياطة مستعجلة ولكنها تتأخر ، ربما لأن طبيبنا الذي نعرفه لم يتقن بعد ثقافة الغُرز ..

أنت تعرف كل هذا وتعاتبني بثرثرة الأعين تخبرني أني أخونك ، تخبرني أيضاً أنك حتماً تحب أن ألقي جرحي كي تلفه بين يديك ،
وأنك تحبني رجل الحرائق ورجل الهزائم ورجل الأمنيات المكدسة في الأدراج ،
وأن هذا المعطف يجعلني أبدو أقوى وأشجع ، ولكنه لا يخفيني عنك ، تمامًا كتلك الرمزية الحمقاء !

أنت تعرف أيضاً أن هذا الحديث لم يكن ليواسيني ، ولم يكن لينسيني أني أنافقك وأنافق صداقتك لإجل استنشاق تبغك الطويل ..
أما أنت فلا يعنيني منك إلا كفك الذي أرخي فيه جرحي هنيهة – ولفافة قصيرة ..

لو أنك يا صديقي أخبرتني من أين لك هذا النوع الفاخر جداً .. الذي يزج بجرحي في زجاجة ويلقي به للبحر ،
لكنتُ أبقيته سراً بين أصابعي كحريق صغير يلتهم أنقاضي وأنتهي دون محاولة منك لإنقاذي ..

دعنا يا صديقي من ثرثرة العجائز هذه وهاكَ جرحي الجديد ، وهبني لفافتي ..

عندما تتناسل هذه اللفافة داخلي ككائن دُخاني لطيف يداعب بأنامله رئتي .. أزفر الوجع .. وصمتك هذا يعني حيرة الوجع ؟ ،
أعرف هذا السؤال الذي يتسلق جبهتك .. أعرفه كتفاصيل هذا المعطف الكئيب ..
الوجع في قاموسنا العربي يعني " الوطن "..
نعم يا صديقي هو ذاك ولا تستغرب أنني أعنيه ! أدري بأن شريط طفولتي واعتزازي الشبابي يمر أمامك الآن بحيثياته الصغيرة / وأنا أهتف بالعروبة وأهتف بالإنتماء والوطن ،
حتى القسم الذي جلجلت به بأن سوف أصبح جندياً يوماً ما ،
وسوف تأتي إسرائيل حتماً تزحف على بطنها حتى أسقيها من خفي..

وحلفت لكم أن هذا الوطن لن يركع .. وركع ..
ولن يبكي .. وبكى
ولن يجوع ونحن أهله .. وجعنا ونحن أهله !

أكانت هذه الوعود التي وعدنا بها أنفسنا ، أم الوطن هو الذي سخر منا سخرية ذريعة كانت كافية حتى تضحكنا بكاءً ..؟

وكنا ننام يا صديقي ونصبح على غدنا نحتفل بعيد استقلال مزيف ونرقص على إثره ،
ونغني الشعارات الوطنية ، ونتمنى ليلتها أن نموت وفي أيدينا حفنة من تراب الوطن ، إلا الذين سكنهم الورع كانوا يتمنون الموت وهم سَجَدة !

ماذا لو تمنينا تلك السجْدة ؟ ..
ماذا لو كنا نعلم أن تلك الأماني محققة حتماً دون هذا التمني الساذج ، وأن هذا الوطن سيقتلنا بغبائنا وعبوديتنا ..
لماذا يا صديقي كنا متواضعين بالأمنيات هكذا ؟ ..
لماذا اقتنعنا بهذه الموتة البائسة ؟

صديقي ..
أنا حزين جداً ، ولا أدري كيف أكفكف دموع هذا الحزن وأنا أمتص تبغك وهو يملأني ضبابية حتى أكاد أضل طريقي في الوصول إلي َّ..
لهذا أنا أسلمك جرحي الأخرق ، طببه لي ودعني أكمل اعترافاتي .. وابقَ أنت بصمتك ..

أحببت وطني ذات حماقة .. وما تزال حماقتي ترغمني على حبه ، والإفتتان بأنينه ،
والإفتتان باحتفالات أعياد استقلاله كطفل حين داعبوا مخيلته وصدق كذبة " البابا نويل " ،
وما أزال أفتتن بجَلده ، وأفتتن بقبلته التي يهديني إياها لإنني مواطن صالح صامت !

لن تصدق يا صديقي كيف هذا الإفتتان ينمو وأنا أعرف كل ذنوبه الفادحة ،
وأعرف أنه سيقتلني يوماً وبقبضتي حفنة منه ..
كما أنجبني من قبل وقد علق في رأسي قليلٌ منه أيضاً ..
أحببت هذا الوطن ، أحببت هذا الوطن كثيراً .. وما يزال دمي يخبرني أنه علي أن أستمر في ممارسة الحب قسراً إذا حصل وكرهته بالصدفة ..

هل كرهت يا صديقي هذا الوطن من قبل ؟
كيف يجرؤ هذا الشعور أن ينمو فيك ؟
كيف ينسيك ما علق على رأسك حين سقطت مولوداً ؟
لا تعنيني أجوبتك الكثيرة بقدر ما يحيرني تبغك هذا وهو يخترقني بخفة دون معارضة مني .. وأنا أرضخ لعدمية الكتمان ..

ذاك وطني الذي كنت أباهي بسمرته وطوله الفارع ، يعدو فيه الموت بخف قياسه دولة !
يدق في رؤوسنا حتى نجن .. يهمس في آذاننا جمرًا حتى نحترق ..
يخبرنا أننا الماضي العريق الذي لن يعود ، يؤكد لنا هذا الخبر مجدداً ويسألنا مباغتًا خوفنا الأمي " من سيعيده ؟ .. جوعكم ؟ "
ثم نسلم له رقابنا ونسقط في الهوة !

أنظر يا صديقي أين وصلنا .. للجوع ، للعطب ، للفقر ، للجهل ، للبكاء ، للتعاسة ، للطبقية ، للتطرف ، للإرهاب ، لحناجر ساخطة ، ولحاكم يُخلع كالضرس وأسهل ربما !

أكانت هذه خاتمة مجدنا العريق ؟ أن نموت ببطء ؟
حتى تبغك هذا لم يجيب .. يخاف من الإجابة .. يخاف أن أسحقه تحت قدمي كما وعدت إسرائيل ذات يوم ،
اششش لا تخبره أنني ما استطعت أن أفعل إلا كفارة ذاك اليمين المغلض ..
حتى لا يراني مجرداً من معطفي .. موشوماً بالجبن الذليل ..

هذه المرة الأولى يا صديقي تسلمني جرحي دون أن تجفف نزفه .. إنه الجرح الذي لا يطيب ..
هاك تبغك يا صديقي لعلي أحتاجه في يوم يكون فيه شرخي أقل نزفاً وقضيتي أقل بكاءً ..
وأعطني هذا الجرح الذي بلل كفيك ، سأدعه ينزف في جيبي حتى تحقق أمنيتي وأموت وفي كفي حفنة من الوجع ..
والوجع يا صديقي يعني " وطن " ..

شفاء
4 / 8 / 2013
قبل أن أصبح جامعية بيوم ( ابتسامة )


:embarrest




*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..