أنت غيرُك

خيري منصور

* دار الخليج





هذا ما كتبه الشاعر الباقي محمود درويش في حمّى النزاع بين فتح وحماس، ولم يَسْلم هذا القول من إساءة الفهم أو التأويل السلبي، وهي ليست المرة الأولى التي يساء فيها فهم مقولة لشاعر تجاوز الغناء إلى التأمل، ولم يعد يفكر بقلبه فقط، فما كتبه قبل عقود بعنوان “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، وجد أيضاً من يفسره على هواه، رغم أن الشاعر الشاب يومئذ تنبه إلى الإفراط في العطف على الفلسطيني بوصفه ضحية، بحيث تُحرم هذه الضحية أخيراً من النقد الإيجابي الذي يعزز قوتها ومناعتها . فما الذي يعنيه أن يكون المرء نفسه أو يكون سواه؟

أن يكون نفسه تلك هي المسألة لا بالمعنى الشكسبيري المعروف فقط، بل بتحقيق التناغم مع الذات، وضبط الخطوات على إيقاعها الداخلي الأصيل، وقد يستغرب البعض إذا عرفوا أن هذا الرهان الوجودي هو جوهر الفلسفة وخلاصتها قدر تعلقها بالإنسان وعلاقته مع ذاته أولاً، فالصدق هو بالضرورة من نتاج التناغم مع النفس وعدم خداعها، وإن كان هناك من تفسير للكذب بمختلف ألوانه ودرجاته، فهو كونه من إفراز حالة الطلاق بين الإنسان ونفسه، وليست الشيزفرينيا في النهاية غير هذا الانقسام إلى خارج وداخل، ومعلن وخفي .

ما نخشاه أن تصبح عبارة درويش “أنت منذ الآن غيرك” صالحة للتمدد خارج رام الله وغزة، وأبعد من فتح وحماس لتشمل واقعاً عربياً بدأ يأكل نفسه .

فلو كان العربي هو ذاته فعلاً لتخلى عن نرجسية تُصيبه بالعمى عن كل شيء غير مصالحه الصغرى، كأنه سيموت غداً ولا علاقة له على الإطلاق بما يبقى منه ويعيش أبداً .

أن يكون العربي الآن ذاته يعني بالضرورة أن يُنهي الحرب الأهلية بين ظاهره وباطنه، قبل أن يفكر بإنهائها أو تداركها بين طوائف ومذاهب وتيارات .

وقبل أن نطالب الآخرين بالمصالحة، علينا أن نواجه أنفسنا لنتصالح معها أولاً، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه .

لقد اختلط الأمر على الكثيرين تبعاً لاختلاط الأوراق في المفاهيم والمصطلحات والنزاعات الأهلية، لهذا يقتل الآن عرب باسم العروبة ويطارد فلسطينيون باسم فلسطين ويذبح مسلمون باسم الإسلام .

إن الإنسان ليس نصاً مترجماً بل هو نتاج ثقافة وبيئة ومكونات تاريخية، وحين تنفصل المقدمات عن النتائج وتنقطع الوسائل عن الغايات تصاب البوصلات كلها بالعطب وليس البوصلة السياسية فقط .

فمتى يعود العربي إلى رشده التاريخي، فيكون هو نفسه وليس أي كائن آخر؟



*** منقول ***