عبدالله السبب يكتب البياض





بقامته الضئيلة ووجهه الصغير، توقف الطفل ذو الثالثة عشرة من عمره وجثا على ركبتيه محاطاً بوجوه النساء الباكية، عيناه تدمعان وقامات الواقفين حوله تعلوه وتضيّق من فسحة الضوء والهواء، تأمل وجه أمه المسجاة، اقترب بوجهه من ملامحها، إنها ترقد بسلام، مغطاة بالأبيض .

لم تتسع يداه لاحتضانها مرة أخيرة، اكتفى بالبكاء طويلاً، كان صوت النشيج يشق قلبه ويفتح فيه شرخاً لن يردم بعد اليوم، أدرك ذلك بعد أيام قليلة، إذ لم تعد يدها تهزه بحنو كل صباح، لم يعد يسمع صوتها يناديه ليحتمي من حر شمس النهار، وعبث الصبية في الأزقة، ما عادت أمه هنا، إنها ترقد تحت مترين من ذاك التراب، تراب المقبرة .

قامته المكسوة بثوب أبيض عفره غبار المقبرة مضت مستسلمة بين الجمع الذي يحمل أمه لمثواها الأخير، كان زحام المشيعين يدفع به إلى قبرها، كان يمر بحذر من بين القبور، ويسمع صوت النباتات تتهشم تحت أقدامه، إنها النباتات التي تنمو على أصوات الموتى .

مضى يومه ثقيلاً كما لو أنه يجر عقارب الساعة لتنهي عبء قلبه، وتتركه كالجثة في المساء، يحلم بصورة أمه، ورائحة كفها . هزيلاً، متعب القلب والروح كان يمشي ويصافح المعزّين، وحده الذي أدرك حينها أن الحياة قاسية أكثر مما ينبغي، كان يظن أنها لو تمهلت عليه قليلاً لكان قلبه أصلب، لكنها لم تنتظر، غابت والدته قبل أن يكمل الثالثة عشرة من عمره .

كان كما لو أنه يلهو بقلبه، فلم يمض على رحيل والدته عام واحد حتى طرق الموت نافذة جده وأخذه نحو الغياب، كان وقع ذلك عليه متعباً، وكأن المقبرة التي لا تعيد الموتى إلى أهلهم باتت صديقته وبعد عام آخر رحل والده .

سمع في قلبه صوت هدير يكاد يجرفه ويودي به إلى حتفه، فلم يجد حينها سوى الورق يفرغ عليه حزنه وألمه، فاكتشف في قلبه روح شاعر شحذته الحياة فصار كائناً من ألم يلجأ للكلام والشعر ليهدأ قليلاً .

هكذا تروي الفصول الأولى من حياة الشاعر عبد الله السبب، إذ يعترف أن الموت دفعه لاكتشاف طاقته في الكتابة، فبعد وفاة والدته وجده وأبيه، صارت المفردات صديقته التي يلجأ إليها كلما ضاقت به الحياة، فكتب منذ حينها الكثير من المحاولات الشعرية، والمقالات والتجارب القصصية .

وبات يعرف بين أقرانه في المدرسة بأنه صاحب قلم جميل، فشجعه المدرسون، ودفعوا به إلى مساحة التجريب والمحاولة، وصار بمرور السنوات يكتب بوعي أكثر، فأقدم على النشر، وكانت صحيفة “الخليج” منبر بداياته في نشر المقالات والنصوص النثرية .

ما إن أنهى دراسته الثانوية، حتى اختار دراسة إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية، وفي الوقت نفسه بقي محكم الوثاق بالموهبة التي تولدت له من أجواء الموت، فواصل مشوار الكتابة عبر شكل القصيدة التقليدية، إلى أن شكلت صداقته بعدد من الشعراء في الساحة الثقافية الإماراتية، حالة متفردة، حيث أسس في العام 1989 “جماعة الشحاتين” مع الشاعر أحمد العسم وإبراهيم يونس، وماهر العبد .

شكلت تجربته مع “جماعة الشحاتين” تجربة مغايرة أحدثت فارقاً في حراك الشعر الإماراتي، من خلال تمردها على شكل القصيدة التقليدية، والانحياز إلى قصيدة النثر وتقديمها نماذج شعرية مختلفة عن السائد في تلك الفترة، حتى باتت الجماعة تحسب في تاريخ تطور الشعر الإماراتي .

في تلك الفترة أي ما بين عام ،1989 ،1990 كتب في جريدة الفجر سلسلة مقالات في الملحق الثقافي، وكان يشتغل على مشروعه الشعري ويتحضر لإصداره الأول، وبدا متمهلاً في طرح مجموعته، حتى جاء العام ،1996 وأصدر مجموعته الأولى وكانت بعنوان “الآن” .

تنبهت الساحة الثقافية إلى قصيدته، ودفعه ذلك للمضي في مشروعه الشعري، إلا أن شكلاً كتابياً ظل يعود إليه بين الحين والآخر، ألا وهو القصة، فكان يكتب القصص، ويجمعها من دون أن يقدم على نشرها حتى عرف بوصفه شاعراً أكثر من كونه قاصاً على رغم أن مشروعه القصصي يكاد يوازي مشروعه الشعري .

لم تمض سنة كاملة على الإصدار الأول حتى ألحقه بالمجموعة الثانية، فأصدر “عصر”، وفي العام ،1998 أصدر مع الشاعر أحمد العسم، وهاشم المعلم مجموعة تحت عنوان “مشهد في رئتي” .

واصل السبب مشواره في القصيدة والقصة معاً، فأصدر خلال تلك السنوات عدداً من المجموعات القصصية منها: فصول، وروايات، وقطار سريع، وفي العام 2008 عاد إلى الشعر، ليصدر “المرايا تحدث أخبارها” .

ويتحضر هذه الأيام لإصدار مجموعة مختارة من شعره عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة بعنوان “كما لو أنني للتو” .



*** منقول ***