تصور نفسك أنك في وسط مشاجرة طلابية بين مجموعتين وكل مجموعة تكيل الشتائم والتهم للمجموعة الأخرى، وأنت عالق وسط هذا الشجار، وسرعان ما يتطور الموقف إلى قتال بالأيدي وصراخ ودماء واستخدام كل ما يقع بين أيديهم من كراسي وطاولات في قذف بعضهم، وسبب هذه الفوضى كلها هو شجار طفيف بين طالبين من منطقتين مختلفتين لا أكثر تطور ليصل إلى هذه الفوضى العارمة. تصور نفسك من تكون في تلك اللحظات، سيداخلك حتما شعورا بأنك كائن غريب تافه لا تمس إلى كل الأشياء من حولك بأي رابط؛ إنك لا تنتمي إليها حقا. إن هذا الشعور الساحق بالتفاهة سيلازمك إلى ما لا نهاية. وتصور معي أيضا شخصا آخر غير نفسك، معلما ما سلك طريقا سريعا ليصل إلى أعلى المناصب كمثل مدير عام في فترة زمنية قصيرة جدا رغم علم الجميع انه لا يستحق ذلك فقد وصل إلى منصبه عن طريق الغش والخداع والمحسوبية والكذب والتزوير ومارس كل وسيلة غير مشروعة وتافهة للوصول إلى هدفه؛ لكنه بعد وصوله لمنصبه ظهرت شخصيته الحقيقية، فالتفاهة هنا قد تضمن لك طريق الوصول إلى هدفك لكن لا تضمن لك أن تكون عظيما هناك، لا تضمن لك إلا تكون تافها للأبد فقط. إن هذا السعي الحثيث من البعض ليكون تافها، فمرة يتلبس شجاعة التفاهة كما في المثال الأول، ومرة أخرى يظهر قدرة وإمكانيات التفاهة في الوصول بك إلى أعلى المناصب لهو مؤشر خطر على أن حلم التفاهة تمكنّ منا ليغزونا ويداعب تفكيرنا وعقولنا ليل نهار. لماذا يصبح لدينا مثل هذا التفكير أحيانا، بأننا لا نساوي شيئا، وبأننا نعيش في عالم غريب، وكثير من الأشياء فيه تافهة لا قيمة لها، وان كل ما نفعله ليس أكثر من تدريبات على أفعال التفاهة والحماقة، إنها تشعرنا بإقصاء غريب ومرعب عن جوهر الحياة ومتعتها حتى أننا لا نستطيع التعامل معها.
هل هذا هو حال المعلم والتربوي فعلا، هو عالق فعلا وسط مشاجرة والكل يشارك فيها، هل لديه هذه القابلية لأفعال التفاهة، وهلوسة الانتظار المرعبة بحيث تجعله قابعا في مكانه ينتظر شيئا شريرا كهذا؛ وما الأسباب التي تجعلنا تافهين إلى هذا الحد مهشّمة كل جمال كياننا الداخلي وتركيبتنا النفسية والفكرية لتجعلنا وكأننا ننتظر قدر الموت. الحقيقة منذ زمن وأنا أبحث في عمق هذه المشكلة المؤرقة ولقد وجدت إلى حد ما بعض الأسباب التي ربما تفتح بعض النوافذ لنرى أنفسنا من زاوية نظر قريبة، وربما تشاركوني في البحث عن بعضها الآخر.
خِفة الضمير؛ هل هذا الضمير الذي بين جوانحنا يثور لأقل مشكلة أخلاقية، تقصير في شرح درس ما، معالجة مشكلة صفية، عجز في توصيل معرفة ما، فعندما يدعس الضمير بعنف على روحك ويجعلك تتألم جدا فهذا يعني أنك ما زلت بخير، وببرودته تفقد ثقل الضمير وراحة الحياة ليعبر عنه القرآن العظيم بالنفس اللوامة، التي تجعلك تلوم نفسك لأي تقصير يظهر منك، وكل معاركنا التي نخوضها في الحياة نكسبها أو نخسرها هناك في تلك المساحة الضيّقة الضامرة المسماة بالضمير؛ فالمسألة برمتها مسألة أخلاقية قبل كل شيء عندنا. وبخفة الضمير نفقد جوانب التماسك في الروح ونغدو كريشة في مهب الريح، حينها تصنعنا التفاهة كما تشاء.
التعليم تسلية؛ لا أجد في هذه المقاربة شيئا منطقيا وعقلانيا، فعل جاد ورصين كالعلم، وفعل ترفيهي خفيف كالتسلية. أليست المقاربة هنا ظالمة ومستفزة؛ عندما يطلب منا في كل مناسبة أن نجعل التعليم كفعل تسلياتي وترفيهي فمعنى هذا أننا ننزع عنه هالة الهيبة والتصميم والقلق اللازم لأي تعلم، لا بد من القلق لكي ندفع الطالب للتعلم، وليس بالضرورة هنا التسلية، فالتسلية تجلب معها السهولة وانخفاض ميكانيزمات التحفز والدافعية عند الطالب. أن ندخل في التعليم جانبا من التسلية فهذا لا بأس به، لكن أن يصمم المنهج والتعليم والتعلم وفق فلسفة التسلية هذه فهذا ما يدعو لفعل التتفيه المدمر. لقد أصبح الطالب يشعر بالتعب أكثر من أي وقت مضى، أصبح لا يحتمل الكثير؛ وللأسف لكي يرضى الطالب لا بد أن يكون المعلم مهرجا، والمعلم الذي لا يفعل ذلك أصبح مملا وحزينا بل ربما قد يكون سببا من أسباب مرض التوحد والوحدة والفشل للطالب؛ أليس هذا غريبا حقا؟ إن تَلَبُسنا المستمر باستعراض التسلية للطالب يجعلنا ليس أكثر من مهرجين وهذا ما يصنع منا بحق تافهين كبار ولكننا جئنا هذه المرة رافعين قبعة الثقافة.
لعبة استعرض ومَهْرِج؛ مَهْرِجْ الأفكار، اجعلها تشبه الرقص، احفر في بنيتها واجعلها غير محترمة، غير صادقة، انقص من احترامها، اجعلها أشبه بضحكة أو نكتة أو طرفة، عندها لن تكون هناك أي فكرة ينظر إليها الطالب بأي تقدير، حينها ربما أن الطالب سيفهم المراد من الفكرة. هل هذا خَطِرْ ! إنها لعنة؛ وأي لعنة عندما يطلب من المعلم أن يستعرض أزياء أفكاره ومبادئه على مشاجب السهولة والتفاهة. هناك مئات اللوائح والوسائل والتصميمات الورقية اللانهائية التي تفرزها المسابقات، وفكر الاستعراض كل عام، وفي كل يوم نضيف ورقة ممزقة بل ربما المئات إلى سلة عقل الطالب المحشوة بالكثير من الأشياء الباهتة. إن انسحاب المعلم والفاعلين على مستوى التعليم، وهروبه من ترسيخ قيم كبرى في حياة الطالب الفكرية والنفسية مثل قيم الحرية، والديمقراطية، وتأثير العلم على المجتمع، وقيم المشاركة، والتعاون، وقيم المواطنة العميقة، تؤدي إلى جعل حياة الطلاب كلها تتمحور على قيم المسابقات السطحية التي تهدف إلى إنشاء حالة استعراضية لهو خطر مميت على كل الأصعدة. عندما يتحوّل هذا الجيل من لعبة الاهتمام بالأشياء الماديّة إلى الاهتمام بالأفكار الإبداعيّة، يستحق أن يطلق عليه مجتمعاً مبدعا. لكن عندما تكون الأشياء والمظاهر الكاذبة هي اللعبة المفضّلة لديه، حينها لن يكون هناك سبيلاً يسلكه غير الكذب والخداع والغش، وهذا ما يدعو حقا لنشوء صناعة ثقيلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى اسمها صناعة التفاهة.
الصِفر البارد؛ المعرفة هي من يجعل الروح مشتعلة ومتحفزة وعاشقة للتحولات. كم من معلم وتربوي يسكن هذه البقعة المتجمدة، منطقة الصِفر البارد، التي تشعرك بالوحدة والغرابة وباللاقيمة والجهل والخالية من المعرفة؛ رغم أن طلب المعرفة هو اختيار ذاتي، وربما ليس لكل معلم حقا الوعي المعرفي الكافي، لكن لا توجد مبررات أن يظل معلما ما بعيدا عن الدورات التدريبية أو الفرص التي تتيح له اكتساب مزيد من المعرفة والتعلم المستمر. عندما نظل بعيدين عن الملامسة الفكرية والعلمية لكهرباء المعرفة نفقد أرواحنا وحينها تغزونا التفاهة. من المهم جدا أن يظل المعلم في بقعة التعلم النشط مواكبا لكل التطورات العلمية والفكرية ليسهم بعد ذلك في الحراك المجتمعي والعلمي.
متلازمة قلق الانتظار؛ عندما ننتظر كثيرا نقلق كثيرا، وبانتظارنا الكثير وقلقنا المستمر الذي يستمر لفترة زمنية طويلة نفقد تقريبا كل شيء لازم لتغذية طموحنا، نصاب بالبلادة الروحية وتختفي روح التحفز والدافعية، عندما ننتظر فرصة مواصلة الدراسات العليا كالماجستير مثلا ولكن الفرصة تأخرت كثيرا، تتأخر لتأتينا بعد فترة زمنية طويلة وللأسف حينها لا نجد طموحا ولا دافعية ولا فكرة مشجعة تساند حتى مشروعنا، كم رأيت هذا أيضا عند معلمي الدبلوم عندما تتوفر لديهم الفرصة لمواصلة دراساتهم الجامعية البكالوريوس وهم قد وصلوا إلى سن الأربعين، إنهم يفقدون الرغبة الأصيلة والدافع المحرك الحقيقي للدراسة. إننا نفقد كل إمكانية للعبور من هذا المطب الزمني والروحي إلى شاطئ بر الأمان لتضحى الروح بعدها بفعل قلق الانتظار كشظايا زجاج مكسّر على جانبي الطريق. إن فلسفة الإهمال تصنع فلسفة التفاهة.
ثقافة الهدر؛ عندما لا يصبح لدينا الوعي الكافي بالزمن وأهميته في الحياة، وعندما يغيب الهدف عن أفق الحياة الإنسانية يصبح كل شيء مباحا لكائن التفاهة أن يفعل بنا ما شاء. ماذا لو أن ساعاتنا زودت بكاميرات ومكبرات صوت ونقوم بتلقيمها جدول المهام اليومي لتكون لديها القدرة بنهرنا وزجرنا والصراخ في وجهنا عندما نتأخر عن الاستيقاظ، أو عندما لا نقوم بأعمالنا؛ هل سيغير ذلك من وعينا بالزمن، وهل سيصبح الوقت ثمينا بالنسبة إلينا.
إننا نهدر الحياة بكافة عناصرها الثمينة، نهدر الطاقات والقدرات، والأفكار، والوقت، هل هذا تافه لحد الكفاية؟ نعم إلى حد انه يقضي علينا تماما ولا يجعلنا نعيش سوى على ضِفاف نهر التفاهة.
القزميّة؛ يدخل المعلم التدريس وربما لديه أمل أنه سيصبح أفضل، وسيكبر طموحه وتفاؤله، وسيصير أفضل وظيفيا، لكن بعد سنوات من الإهمال والغفلة عنه، وسحل الروح، وكل أنواع التقشير النفسي التي تمارس عليه من الطلاب والنظام التعليمي والمسئولين، سيشعر بإرهاصات التحولات التي تجري بداخله، سيصير شبحا، شخصا منبوذا من كل شيء؛ منبوذا من التقدير والتكريم ومهمشا كل ما استطاع المسئول عنه إلى ذلك سبيلا، سيصبح غريبا، وسيشعرك العالم من حولك بأنك تافها لحد الجنون، وبأنك لا تساوي شيئا، انه تراجع الذات، تشعر انك قزم بجوار عمالقة، لكنهم للأسف عمالقة منتفخين بفعل غاز الهليوم الخفيف جدا، قد نفختهم كل أمراض العصر ليس الغرور وحده فقط بل الكبرياء والإدعاء الكاذب بالمعرفة، والزخرفة الكاذبة التي تظهر كأزياء الموضة. أنهم يعبئونك بالضآلة والخفة يريدون أن يجعلونك مثلهم تسعى وراء هدف كاذب وتافه كأهدافهم. إن تقزيم الإنسان ليس معناه فقط التقصير من طوله وحتى هذا ربما يكون شيئا يحدث فعليا نتيجة لمحاصرة نفسية رهيبة، بل وممارسة فعل الضآلة على روحه وحشره في زاوية غريبة لجعله يعيش بعيدا عن كل شيء، لكن رغم ذلك لكل إنسان قدره، بل ويستطيع أن يعيد إنتاج قدره ما دامت لديك الوسائل والأمل.
قضية الالتزام؛ أن ملتزما معناه أن يكون لديك حس ووعي عالي بالمشكلات والقضايا المصيرية للمجتمع مدافعا عنها بكل شراسة ضد كل من يريدون تمييعها وتغريبها أو دسها. ولقد أظهر المعلم في الإضراب الأخير وعيا فكريا عاليا بمسألة الالتزام، وهذه ربما أول مرة أراه واضحا فيها بشأن قضية يدافع عنها بشراسة، انه التزام المثقف، ذلك الالتزام الذي يقبض على القضايا المصيرية للمجتمع كقضايا التعليم ومشاكله. لكن رغم ذلك أرى أن المعلمين والتربويين مقصرين في قضايا كثيرة مختلفة، فيجب أن يكون لديهم الوعي الكافي للتفريق بين القضايا المؤثرة وغير المؤثرة، وان يكون اهتمامهم بالأفكار الكبرى ويخصصوا لها الوقت اللازم للنظر والتأمل فيه ومحاولة وضع بعض الحلول لها. ما أكثر الأخطاء والمشكلات التي نراها في المدرسة وخارجها، لكن هل توقفنا عندها لنتأملها، التأمل فعل من أفعال الوعي والهروب جزء كبير من فعل التفاهة؛ لأن التفاهة قبل كل شيء هي الوعي الغائب أو قل اللاوعي.
السياسات والأنظمة؛ عندما تعمل القوانين المنبثقة من الأنظمة على محاصرة المعلم، فمرة تمنعه من مواصلة دراساته العليا عندما تستن عددا من القوانين تكبح طموحاته، وبذلك لا تضمن له نموا معرفيا كافيا ووقودا للاستمرارية فيصاب بمختلف التشنجات وسوء تغذية فكرية دائمة. وعندما لا تمنحه الفرصة ليقدم مشاريعه وأفكاره ورؤيته للتعليم، هل منح المعلم فترة عام دراسي للقيام بمشروع ثقافي وفكري ككتابة كتاب هو أمر مروع ومشكلة كبرى للوزارة. وعندما لا يمنح الفرصة في المشاركة في بناء مناهج طلابه وتطويرها ونقدها وإعطاء بعض المعلمين تفرغا كاملا لفصل أو عام دراسي للقيام بذلك العمل الجوهري، وعندما تسن القوانين من اجل معاقبة المعلم لأنه طالب بحقوقه، كل ذلك يعتبر صانعا للتفاهة ومغذيا لها في روح المعلم.


إن التفاهة فعل مدمر والقليل منا من ينجو من هذا الإخطبوط الهائل الذي يلفنا؛ إنها تتلقفنا في كل مكان؛ فهل نستطيع الوقوف في وجهها !




*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..