جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية لهذا العام ( 1943 ) في موضوع الإنشاء ما يأتي :
" تقابل قِطّان : أحدهما سمين تبدو عليه آثار النعمة ، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله ؛ فماذا يقولان إذا حدّث كل منهما صاحبه عن معيشته ؟ "
وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين ، ولم يعرفوا كيف يوجّهون الكلامَ بينهما ، وإلى أيّ غاية ينصرف القول في محاورتهما ؛ وضاقوا جميعا وهم أطفال - أن تكون في رؤوسهم عقول السنانير ؛ وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيميّة ومن عيشها خاصّة ، فيكتنهوا تدبير القطاط لحياتها ، وينفذوا إلى طبائعها ، ويندمجوا في جلودها ، ويأكلوا بأنيابها ، ويمزقوا بمخالبها .
قال بعضهم : وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط ، وعبناهم بأقبح العيب ؛ فكيف لم يعلمونا من قبل - أن نكون حميرا ، وخيلا ، وبغالا ، ثيرانا ، وقردة ، وخنازير ، وفئرانا ، وقططة ، وما هب ودب ، وما طار ودرج ، وما مشى وانساح ، وكيف - ويحهم - لم يلقنونا مع العربية والإنجليزية لغاتِ النهيق ، والصهيل ، والشحيج ، والخوار ، وضحكَ القرد ، وقُباعَ الخنزير ، وكيف نصيء ، ونموء ، ونلغط لغط الطير ، ونفحّ فحيح الأفعى ، ونكشُّ كشيش الدبّابات ، إلى أن يتم به هذا العمل اللغوي الجليل ، الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير والحشرات والهَمج أشباهها . . . . ؟
وقال تلميذ خبيث لأستاذه : أما أنا فأوجزت وأعجزت . قال أستاذه : أجدت وأحسنت ، ولله أنت ! وتالله لقد أصبت ! فماذا كتبت ؟ قال : كتبت هكذا :
يقول السمين : ناو ، ناو ، ناو . . . فيقول النحيف : نو ، ناو نو . . . فيرد عليه السمين : نو ، ناو ، ناو . . . فيغضب النحيف ، ويكشر عن أسنانه ، ويحرك ذيله ويصيح : نو ، نو ، نو . . . فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ : ناو . . . فيثب عليه النحيف ويصطرعان ، وتختلط " النونوة " لا يمتاز صوت من صوت ، ولا يبين معنى من معنى ، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد ، بعد مراجعة قاموس القطاط . . . !
قال الأستاذ : يا بني ، بارك الله عليك ! لقد أبدعت الفن إبداعا ، فصنعت ما يصنع أكبر النوابغ ، يظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه ، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي ، ولا نبي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت ، وهو مذهب الواقع ، والواقع هو الجديد في الأدب ؛ ولقد أرادوك تلميذا هرا ، فكنت في إجابتك هرا أستاذا ، ووافقتَ السنانير وخالفتَ الناس ، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي ، فإن هذا الفن إنما هو طريقة الموضوع الفنية ، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك ، ولو حفظوا حرمة الأدب ورعَوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلاما طويلا بارعا في النادرة والتهكم ، وغرابة العبقرية ، وجمالها وصدقها ، وحسنِ تناولها ، وإحكام تأديتها لما تؤدي ؛ ولكن ما الفرق يا بني بين " ناو " بالمد و " نو " بغير مد . . ؟ قال التلميذ : هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية : شرطة ونقطة وهكذا .
قال : يا بني ، ولكن وزارة المعارف لا تقر هذا ولا تعرفه ، وإنما يكون المصحح أستاذا لا هرا . . . والإمتحان كتابي لا شفوي .
قال الخبيث : وأنا لم أكن هرا بل كنت إنسانا ، ولكن الموضوع حديث قطين ، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به ، لا المتكلفين له ، والمتطفلين عليه ؛ فإن هم خالفوني قلت لهم : اسألوا القطاط ؛ أو لا فليأتوا بالقطين : السمين والنحيف ، فليجمعوا بينهما ، وليحرشوهما ، ثم ليحضروا الرقباء هذا الامتحان ، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه ، وليصفوا منهما ما يرونه ، فو الذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعا - ما يزيد الهران على " نو ، وناو " ، ولا يكون القول بينهما إلا من هذا ، ولا يقع إلا ما وصفت ، وما بُدٌّ من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القوي والضعيف ، ثم فرار الضعيف مهزوما ، وينتهي الامتحان !
#اقتباس
#وحي_القم
#مصطفى_صادق_الرافعي
#اخترتها_لكم_دعابة ^_^
*** منقول ***
لمتابعة أكثر خارج موقع مسندم.نت...
نرجو زيارة هذا الرابط (( بالضغط هنـــا )) ..
المفضلات